
بعض مما يجب الا يُنسى – بقلم د.محمود عطية
الثلاثاء
قارئات للقرآن:
مصر هى عاصمة دولة التلاوة الأقدم والأشهر، ومدرسة القرآن المصرية كانت – ومازالت – هى الأولى والأهم والأكثر نفوذًا وتأثيرًا، بكل ما تتفرد به من بصمة خاصة فى فن الأداء، وما تتميز به بالحفظ التام والتمكن وحلاوة الصوت الذى يصل بالمعانى إلى شغاف القلوب، وقد أتى حين من الدهر على مصر كان بها قارئات للقرآن الكريم، يرتلن ويجودن كأفضل ما يكون، ومعتمدات بالإذاعة، وكان لهن صيت كبير وعديد من المستمعين، ومن أشهرهن الشيخة «كريمة العدلية»، والشيخة» نبويه النحاس».
والشيخة «كريمة العدلية» تخطت شهرتها حدود مصر، حتى إن الشيخ على محمود قارئ القرآن الشهير عُرف عنه أنه كان مغرما ومحبا للاستماع إلى تلاوتها للقرآن الكريم، علاوة على أدائها للتواشيح الدينية. ورحمة الله عليه تعود أن يتبعها أينما تذهب لإحياء ليالى القرآن عند النساء للاستماع إليها، ومما يذكر بالمثل عن الشيخة كريمة العدلية أنها تعودت على الذهاب الى مسجد الحسين فجرا حتى تستمع للشيخ على محمود وهو يرفع الأذان بالمسجد. وفى يوم ما جمع القرآن بين قلبيهما وتزوجا، وأصبحا يقرآن سويًا فى الإذاعة المصرية.
وبدأت قصة القرآن مع الشيخة كريمة التى ولدت بحى الجمالية 1914 وتوفى والدها وهى فى سن الخامسة، وقد عانت من ضعف شديد فى البصر، وتولى أخوها تحفيظها للقرآن وأتمته فى سن الحادية عشرة، وكف بصرها وهى فى سن 16 عاما.
كانت ترتل آيات القرآن بصوتها حتى الحرب العالمية الثانية، واعتادت إقامة حفل ضخم للإنشاد فى الخميس الأول من كل شهر فى أحد بيوت أثرياء الأقاليم، وذاع صيتها لتحيى ليالى قرآنية وعزاءات السيدات، فأحيت عزاء الراحلة اسمهان وكذلك عزاء عالم الفيزياء على مصطفى مشرفة، وكانت على علاقة طيبة بكل زوجات رجال الثورة، وكانت تحيى أى عزاء تابع لهن، وقد بلغت شهرتها لدرجة أن قدمتها الإذاعة مرتين فى يوم واحد، واستمرت فى القراءة والتلاوة فى الإذاعة حتى نهاية الخمسينيات قبل أن تصدر فتوى من أحد المشايخ تحرم قراءة النساء للقرآن..!
أما القارئة الثانية فهى الشيخة «نبوية النحاس» التى تعد آخر مصرية ترتل القرآن الكريم فى الاحتفالات العامة، وفى المناسبات الدينية، وفى المآتم، والأفراح، والاستماع إليها كان مقصورًا على السيدات، والشيخة نبوية لم تقتصر قراءتها على المناسبات الدينية والمآتم بل امتدت لمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، حيث يوجد مكان مخصص للسيدات به يدخلن إليه من باب مخصوص، وتميزت بصوتها القوى الرنان، وظهرت الشيخة نبوية فى فترة زمنية عاشت فيها اثنتان من كبار القارئات تنافسن سويًا فى قراءة القرآن، وقد عاصرت نفس الفترة التى اشتهر فيها الشيخة كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده.
وتحدث الكاتب الراحل الكبير محمود السعدنى عن الشيخة «نبوية النحاس» فى كتابه «ألحان السماء» حيث قال عنها فى فصل بعنوان «من الشيخة أم محمد إلى الشيخة كريمة العدلية»: «أن السيدة نبوية كانت واحدة من 3 سيدات اشتهرن بتلاوة القرآن الكريم ومعها السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده»، وختم القول عنها قائلا: «بموت السيدة نبوية النحاس، انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث، وتوفيت رحمة الله عليها عام 1973م.
……………………………………….
الجمعة:
وطنية “داير مواس”
حاولت التعجب حين دار السؤال بذهنى، لماذا ننسى بعض أبطالنا ممن قاوموا الاستعمار بحياتهم؟!، رغم أن ما قام به «د.خليل أبوزيد» يوم 18 مارس أصبح عيدا قوميا للمنيا، واعترف التاج البريطانى الاستعمارى أنه شهد أشرس مقاومة ضده إبان ثورة 1919 بمدينة دير مواس بمحافظة المنيا تحت قيادة د.خليل أبوزيد ابن الأثرياء المنحاز للفلاحين والأرض،
فيذكر المؤرخ الكبير الرافعى فى مؤلفه عن ثورة 19 «كانت مصر مستعمرة بريطانية وقتها، وبريطانيا تستولى على كل شيء حتى «الحمير والجمال» لصالح ما يسمى بالمجهود الحربى للحرب العالمية الأولى. فلما عاد «خليل أبوزيد» من لندن بعد حصوله درجة الدكتواره، بدأ يجتمع بشباب دير مواس ويشغلهم بالقضية الوطنية وبالحرية ويوعيهم بعواقب الاستعمار، وكان يجتمع مع كل الأسر والعائلات، لأن «دير مواس» فى ذلك الوقت كانت قرية متداخلة وترتبط عائلاتها بصلات نسب ومصاهرة مع بعضها، والاجتماعات كانت تتم فى قصر «أبوزيد»..
ووقت اشتعال الثورة فى القاهرة، خرجت «دير مواس» فى 18مارس 1919 بعد صلاة الفجر بقيادة د.خليل أبوزيد بعدما علمت أن قطارا يقل بعض الضباط الإنجليز وعلى رأسهم «مستر بوب» مدير سجون الوجه القبلى محاطا بحراسه، وجميع من فى القطار مسلحون متجها للقاهرة لقمع الثوار، وكانت الخطة أن يتمم توقيف القطار ليشرح د.خليل للضباط الإنجليز القادمين بالقطار معاناة الفلاحين، وهمومهم، وسخطهم الشديد المكبوت لما يلقونه من ضيق بسبب الظلم وخراب بيتوتهم، ثم يطلب منهم نقل رسالة الصعيد بضرورة الإفراج عن سعد زغلول، والسماح بذهابه إلى مؤتمر الصلح ورفاقه.
فى ذلك الوقت لم تمض شهور قليلة على انتهاء الحرب، ولم ينس الفلاحون أوجاعهم من السخرة والتجنيد الإجبارى، ومصادرة المواشى، والمحاصيل خاصة محصول القطن الذى بيع بأبخس الأثمان، مما جعلهم يشعرون دائما بأنهم عبيد وليسوا أحرارا فى أراضيهم، ويتذكرون التجويع أيام الحرب حتى بعد الحرب،
وتطورت الأحداث إلى مواجهة عنيفة مع القوات البريطانية الموجودة بالقطار، مما أدى إلى مقتل عدد من الجنود الإنجليز ومن بينهم «بوب» مدير السجون الذى وصفه الأهالى بأنه جلاد مجرد أعدم الكثيرين من أهالينا. ولم يحدث فى تاريخ الإمبراطورية البريطانية أن تصدى مدنيون لعسكريين كما حدث فى دير مواس وملوى، وسريعا حاصرت القوات الإنجليزية دير مواس بالأسلحة والجمال والكرابيج، عازمة على أن تمثل بأهل القرية الذين تجاوزوا خطوطها الحمراء، فأوقعوا بأهلها أشد أنواع التنكيل والتعذيب، واعتدوا على النساء وأحرقوا المنازل، حتى «بلاصات» العسل والسمن التى كانت موجودة فى بيوت الفلاحين كسروها، فاختلطت دماء الشهداء بالعسل والسمن، فأطلق على دير مواس «بلد الدم والعسل».
وبحيلة خسيسة تم خداع «خليل» وسلم نفسه، وقدم الثوار للمحاكمة العسكرية التى يشرف عليها الإنجليز، وتمت المحاكمات، وقررت إعدام ستة رجال من العائلة، وكانت قائمة الاتهام تشمل 93 متهما معظمهم من «دير مواس» والباقون من ديروط، من ضمن المتهمين د.خليل أبوزيد والعمدة محمد أبوزيد، وعبدالمالك أبوزيد، وعبد الرحمن حسن محمود وهو ابن عم «أبوزيد على محمود»، ومحمد على محمود، ومحمود على محمود، وّكلهم من عائلة واحدة، وعندما تولى سعد باشا زغلول الوزارة أفرج عن المعتقلين السياسيين ومنهم محمد أبوزيد، لكن الإنجليز لم يعفو عن الدكتور خليل ولم يفلح والده من خلال أمواله ولا علاقاته فى تخفيف حكم الإعدام عن نجله.
ولم يهدأ أبوزيد ووصل إلى الحاكم الإنجليزى ورشاه بالمال الكثير، وأخذ منه ورقة بتوقيعه بالموافقة على تخفيف الحكم عن خليل من الإعدام شنقا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وبالفعل أخذ ورقة القرار وسافر إلى أسيوط مقر سجن الثوار.. وصل أبوزيد إلى مقر السجن فى الثامنة صباحا، فدخل على المأمور وأخبره بأنه والد الدكتور خليل، فرد عليه المأمور: البقية فى حياتك.. خليل أعدم الساعة 6 فجرا.
قالوا:
اربط الحمار جنب رفيقه، إن ما تعلم من شهيقه، يتعلم من نهيقه
أعمل حاجتى بإيدى ولا أقول للكلب يا سيدى