بعد زلزال اسقاط الحكومة الفرنسية …
ما هي الأرضية والسيناريوهات المختلفة لمستقبل البلاد؟
قدم رئيس الحكومة الفرنسي ميشيل بارنييه استقالته إلى رئيس الجمهورية في قصر الإليزيه، بعد تصويت أغلبية النواب لصالح سحب الثقة من حكومته، وهو الإجراء الوحيد الممكن دستوريا، وأصبحت الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، المطلوب منه اختيار شخصية جديدة وتكليفها بتشكيل الحكومة.
تبعات سحب الثقة من الحكومة لا تقتصر على استقالة رئيسها ووزرائه، وإنما ينعكس الأمر، أيضا، على تفاصيل الحياة اليومية لكافة الفرنسيين، خاصة وأنها تأتي في ظل وضع سياسي واقتصادي خاص وحرج ومعقد للغاية.
تبعات اقتصادية ومعاشية لاستقالة الحكومة
جاء التصويت على الثقة في الحكومة نتيجة لرفض الميزانية التي قدمها ميشيل بارنييه، مما يعني أن فرنسا أصبح بلدا بدون ميزانية، ويقضي الدستور بضرورة إقرار النواب والشيوخ للميزانية، أو تمريرها دون تصويت بفضل المادة 49.3، قبل نهاية العام ليبدأ العمل وفقها فورا.
غياب الميزانية دفع برجل الشارع الفرنسي لطرح كم كبير من الأسئلة حول استمراره في تلقي رواتبه وتعويضات التأمين الصحي، وسارع الخبراء للتأكيد على أن موظفي الحكومة سيتلقون رواتبهم الشهرية، وأنهم لا يمكن أن يواجهوا موقفا مثل ما يحدث في الولايات المتحدة عند الخلاف بين السلطتين التنفيذية والتشريعية حول الميزانية ويقع ما يسمى بالإغلاق Shutdown لعمل الدولة.
يتيح الدستور الفرنسي، في مثل هذه الحالة الاستثنائية، أن تحصل على تصويت شهري من البرلمان لتطبيق ميزانية الشهر ذاته من السنة الماضية، ولكن هذا يعني أيضا أن الموظفين لن يحصلوا على نسب التعديل السنوية في الرواتب التي يتم قياسها على نسبة التضخم، كما يتم تعديل الشرائح الضريبية سنويا تبعا لنسبة التضخم، وهذا لن يحدث هذا العام، ما سيؤدي إلى ارتفاع نسبي في الضرائب، واضطرار أشخاص، كانوا معفيين من دفع الضرائب بسبب ضعف دخولهم، لتسديد ضرائب عن عام 2025، أضف إلى ذلك أن رفع المعاشات بنسبة مرتبطة بالتضخم لن يتم بدوره.
على المستوى الاقتصادي، يبلغ الدين العام الفرنسي ٣٢٢٨ مليار يورو، وتبلغ خدمة الدين السنوية ٦٠ مليار يورو، وعمليات الاقتراض للإنفاق العام مستمرة، مما يثير شيئا من القلق في صفوف المستثمرين في الدين العام الفرنسي، ويؤدي إلى رفع سعر الفائدة لدى محاولة الحصول على قروض جديدة، وتشويش أجواء الاستثمار عموما في فرنسا.
تبعات سياسية
يمكن القول إن خريطة القوى السياسية والصراعات فيما بينها، اليوم، هي الأكثر تعقيدا في تاريخ فرنسا.
الانتخابات الأوروبية والانتخابات التشريعية المبكرة في الصيف الماضي قلبت الموازين السياسية في البلاد بصورة جذرية، مع صعود كبير جدا لقوى اليمين المتطرف المتمثلة في حزب “التجمع الوطني” على حساب القوى التقليدية مثل الماكرونيين، الاشتراكيين، الديغوليين واليمين التقليدي، الشيوعيين وأنصار البيئة.
محاولة ماكرون لإعادة التوازن للمسرح السياسي، بحل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة أدت لبروز جبهة القوى اليسارية، ولكنها لم تحسم الموقف لصالح أحد الأطراف بأغلبية مطلقة، وإنما أدت إلى تعقيدات إضافية مع ثلاث كتل برلمانية متوازنة، لا يتمتع أي منها بالأغلبية المطلقة، مما أدى لأن يصبح اليمين المتطرف قبة الميزان في مجلس النواب الجديد.
الخريطة السياسية الفرنسية شديدة التعقيد، تتواجد في خريطة إقليمية ودولية أكثر تعقيدا، مع الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي بين دول من أوروبا الشرقية يسيطر عليها يمين قومي متطرف وأخرى غربية تختلف، بدورها، فيما بينها على المصالح الاقتصادية، ومع حرب أوكرانيا التي قلبت كافة موازين القدرات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي، وحرمت هذه الدول من مصادر أساسية للطاقة.
دوليا، يبدو أن انتخاب ترامب سيشعل نيران حرب تجارية عالمية مع الصين، دون الحديث عن موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي.
وسط هذه الصورة التي تبدو غاية في الاضطراب، ينبغي على ماكرون القيام بخيارات تسمح بتشكيل حكومة قادرة على اقناع النواب بسياسات تخرج فرنسا من أزمتها الاقتصادية، وتحافظ، في الوقت نفسه، على حد أدنى من المكتسبات والمطالب الاجتماعية، ذلك إن الفرنسيين وصلوا إلى حالة لا تسمح بأي ضغط اقتصادي جديد عليهم