ما تداعيات انخفاض معدل المواليد في أميركا والصين ومعظم العالم؟
الدول العظمى ستخطب ود أفريقيا حينما تشكل ربع سكان الأرض عام 2050
لم يكن سماح الصين، وللمرة الأولى، لكل أسرة بإنجاب ثلاثة أطفال هو التغير المثير للدهشة في العالم نتيجة الخوف من تراجع سريع في معدلات الإنجاب، بعد عقود من تحذيرات الانفجار السكاني وتأثيراته الضارة على المجتمعات، فقد ظهرت مدن أشباح لا يسكنها أحد في شمال شرقي الصين، وأغلقت أجنحة الولادة في عدد من مستشفيات إيطاليا، ولا تجد الجامعات في كوريا الجنوبية عدداً كافياً من الطلاب، ودمرت ألمانيا مئات الآلاف من العقارات، وحولت الأرض إلى حدائق، في وقت تعالت فيه صيحات التحذير في الولايات المتحدة من تداعيات تراجع النمو السكاني للعام السادس على التوالي، فما السبب وراء كل هذا الهلع؟ وهل ستكون أفريقيا التي ستشكل نصف سكان العالم عام 2050 هي الاستثناء الوحيد؟
السقوط الحر
قتل الطاعون بين ثلث وثلثي سكان أوروبا عندما ضرب القارة في القرن الـ14، ولحسن الحظ، لم يفعل وباء كورونا شيئاً من هذا القبيل، لكن من المرجح أن يكون تأثيره على سكان الكوكب الأرضي أكبر من وفاة ثلاثة ملايين شخص متأثرين بالوباء، فقد تراجعت أعداد المواليد في كل أنحاء العالم، ففي الصين على سبيل المثال، انخفض نمو المواليد بنحو 15 في المئة العام الماضي، وسجلت أميركا انخفاضاً بنسبة أربعة في المئة، وهو أبطأ نمو تشهده أميركا منذ 1979، ونتيجة لذلك، أصبح التاريخ المتوقع للوصول إلى ذروة تعداد سكان الأرض هو منتصف القرن، بدلاً من 2060، كما كان متوقعاً من قبل، وإذا استمر هذا المنحنى التنازلي فسيكون الأمر أشبه بانهيار جليدي أو سقوط حر لتعداد السكان حول العالم باستثناء القارة الأفريقية التي لا تزال النساء تنجب فيها أكثر من أربعة إلى خمسة أطفال.
وحسب تقديرات الأمم المتحدة، سيرتفع عدد سكان العالم من نحو 7.9 مليار نسمة اليوم إلى 9.7 مليار بحلول عام 2050، لكن هذا النمو موزع بشكل غير متساوٍ، فخلال الأسابيع القليلة الماضية، كشفت بيانات الإحصاء السكاني في الصين عن أن عدد سكانها البالغ 1.41 مليار نسمة، نما بنسبة 5.38 فقط خلال 10 سنوات، وهي أبطأ وتيرة منذ خمسينيات القرن الماضي.
الهرم المنقلب
ويعود قرار بكين السماح بإنجاب ثلاثة أطفال إلى أن نموذجهم السكاني يشهد انخفاضاً حاداً، إذ من المتوقع أن ينخفض عدد سكان الصين من 1.41 مليار الآن إلى نحو 730 مليوناً عام 2100، وهذا يعني أن الهرم السكاني سينقلب، وبدلاً من وجود قاعدة من العمال الشباب الذين يدعمون مجموعة أقل من المتقاعدين، سيكون لدى الصين عدد من الشباب يساوي عدد الذين يبلغون من العمر 85 عاماً.
وفي الولايات المتحدة، أظهرت الأرقام الفيدرالية أن نسبة المواليد انخفضت أربعة في المئة خلال عام 2020 مقارنة بالعام السابق، وشهدت 25 ولاية وفيات أكثر من المواليد في العام الماضي، بعد أن كانت خمس ولايات فقط في نهاية عام 2019، ويعني ذلك زيادة شيخوخة السكان الأميركيين.
مرض عالمي
ولا توجد دولة أوروبية لديها عدد كافٍ من الأطفال للحفاظ على استقرار عدد سكانها، والذي يتطلب أن تنجب كل امرأة في المتوسط 2.1 طفل، ففي منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم الدول الغنية، يبلغ معدل المواليد 1.6، كما انخفضت معدلات الإنجاب بالمثل في الأجزاء الغنية من شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية واليابان، وتنخفض بنسبة أقل في أجزاء من أميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
ومع زيادة وصول النساء إلى التعليم ووسائل منع الحمل، ومع استمرار تفاقم المخاوف المرتبطة بإنجاب الأطفال، يؤخر المزيد من الآباء الحمل ويقل عدد المواليد حتى في البلدان التي طالما ارتبطت بالنمو السريع، مثل الهند والمكسيك التي انخفضت فيها معدلات المواليد بالفعل عن معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل أسرة والذي يحافظ على عدد السكان ثابتاً من دون زيادة أو نقصان.
أفريقيا الاستثناء
لكن أفريقيا تبدو الاستثناء الوحيد من معادلة السقوط الحر في انخفاض السكان، وبخاصة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث من المتوقع لنيجيريا أن تتجاوز عدد سكان الصين مع نهاية القرن الحالي، بينما بحلول عام 2050، سيكون ربع سكان العالم من الأفارقة، وستصبح القوى العاملة الشابة والمتنامية في القارة، والتي ستكون الأكثر في العالم، على تناقض صارخ مع السكان المسنين في المناطق الأخرى حول العالم، ما سيجعل رأس المال البشري الأفريقي أهم ميزة في الصورة العالمية لأفريقيا التي سيخطب ودها كل القوى العظمى بعد أن كان ينظر إلى الدول الأفريقية على أنها بيادق في الصراع بين هذه القوى.
وبسبب توافر الموارد الطبيعية في أفريقيا، بما في ذلك الكوبالت وغيره من المعادن النادرة الضرورية لمستقبل البشرية الذي تحركه التكنولوجيا، ستصبح استراتيجيات الدول العظمى إيجابية أفريقياً، وبخاصة حينما تندمج القارة في الاقتصاد العالمي، ويتزايد تأثير صوت أفريقيا وتصويتها عندما تتحد معظم بلدان المنطقة البالغ عددها 54 في المنتديات العالمية.
انعكاسات سلبية
وفي وقت ستكون فيه أفريقيا شابة، سيواصل العالم دفع فاتورة إطالة العمر لدى كبار السن وانخفاض معدلات الإنجاب، والتي ستؤدي إلى عدد أقل من العمال والمزيد من المتقاعدين، ما يهدد بقلب طريقة تنظيم المجتمعات التي تعتمد على أن زيادة أعداد الشباب هي قاطرة نمو الاقتصادات والتي تساعد في دفع تكاليف رعاية كبار السن، وقد يتطلب الأمر إعادة صياغة كثير من المفاهيم، إذا أصبحت مناطق بأكملها يبلغ فيها جميع السكان أكثر من 70 عاماً، والحكومات تخصص مكافآت ضخمة للمهاجرين وللأمهات اللاتي لديهن الكثير من الأطفال، بينما يشغل الأجداد غالبية الوظائف المؤقتة.
وسيكون كل ذلك بمثابة نقلة نوعية تتطلب أن تتعلم البلدان المختلفة كيف تتعايش مع التراجع السكاني والتكيف معه، فقد بدأت التداعيات في الظهور بالفعل، خاصة في شرق آسيا وأوروبا، فمن المجر إلى الصين، ومن السويد إلى اليابان، تكافح الحكومات لتحقيق التوازن بين مطالب قطاع واسع من كبار السن واحتياجات الشباب الذين تتشكل قراراتهم في شأن الإنجاب، سواء كانت من خلال عوامل إيجابية، مثل مدى توافر مزيد من فرص العمل للنساء، أو عوامل سلبية مثل استمرار عدم المساواة بين الجنسين وارتفاع تكاليف المعيشة.
الكوكب الخالي
ولم يصل تعداد البشر إلى مليار نسمة حتى القرن الـ19، لكن العدد الإجمالي نما بعد ذلك بسرعة هائلة، حيث أضيف مليار آخر بحلول عشرينيات القرن الماضي، وزاد البشر ستة مليارات أخرى خلال الـ100 عام التالية، وحتى يومنا هذا.
وكان من الطبيعي أن يصاحب هذا الانفجار السكاني الكثير من القلق والذي عبر عنه كتاب “القنبلة السكانية” لباول إرليش عام 1968 حينما تراوح عدد سكان الأرض بين ثلاثة وأربعة مليارات، والذي حذر من مجاعة عالمية وشيكة، لكن معظم التوقعات العالمية قبل الوباء كانت تشير إلى أن عدد سكان العالم سيستقر ويصل إلى الثبات في النصف الأخير من القرن الحالي الـ21، وذهب آخرون إلى أن عدد سكان العالم سينخفض بعد ذلك مثلما أشار كتاب “الكوكب الخالي” الذي نشره صحافيان كنديان عام 2019 استناداً إلى تراجع معدلات الإنجاب في الدول ذات الاقتصادات الغنية والصاعدة والتي تصل فيها إلى أقل من معدل الإحلال أو الاستبدال، ويبلغ 2.1 طفل لكل امرأة.
أفكار أقل
قد يبدو تقلص عدد سكان الكوكب أمراً مرحباً به نظراً للتحديات البيئية التي يواجهها العالم، لكن قلة أعداد الناس قد تعني أيضاً عدداً أقل من الأفكار الجديدة وإنتاجية أقل وأعباءً أكبر، ما سيؤدي إلى مستقبل مختلف عما يتخيله المتفائلون.
وبينما يشير بعض العلماء إلى عواقب إيجابية محتملة لانخفاض عدد السكان، مثل تقليل الضغط على الموارد الشحيحة، وتراجع الأضرار البيئية، وزيادة استقلالية النساء، وزيادة أجور العمال بسبب ندرتهم، إلا أنهم توقعوا أيضاً اضطرابات اقتصادية، مثل ندرة العاملين في مجال الرعاية واستمرار مشكلات الدين الحكومي.
ومع ذلك، يعتقد البعض أن أي آثار اقتصادية إيجابية على المدى الطويل تنتج عن تقلص عدد السكان، سيضيع أثرها في النهاية بسبب انخفاض القدرة الإبداعية للبشرية التي تدفع بالنمو لأن الناس كانوا دائماً مصدر الأفكار، وفي غياب الأفكار الجديدة، يتوقف النمو في النهاية.
وفي حين أن هناك عدداً من المهام القيمة التي يمكن أن تقوم بها الروبوتات، فإن الأفكار الجديدة تسمح للاقتصاد بالنمو عبر استخدام موارد أقل أو إنشاء مهام جديدة وقيمة لتشغيل العمالة واستخدام رأس المال، لكن إنتاج الأفكار الجديدة يتطلب تعديل استخدام الموارد البشرية من خلال زيادة الاستثمار في التعليم وتشجيع مزيد من الناس على العمل في البحث بدلاً من الإنتاج.
سياسة الجزرة
ولتشجيع الناس على الإنجاب، سمحت الصين، وللمرة الأولى، بإنجاب ثلاثة أطفال لكل أسرة بعد أن كانت توقع غرامات مالية على أي أسرة تنجب أكثر من طفلين، في وقت اتبعت دول أوروبية أخرى سياسات مكلفة مثل بولندا، التي قررت عام 2016 أن تمنح الوالدين نحو 135 دولاراً شهرياً لكل طفل حتى يبلغ 18 عاماً، وتتلقى العائلات الروسية مبلغاً من المال دفعة واحدة يزيد على 6270 دولاراً عند ولادة طفلها الثاني للإنفاق على السكن أو التعليم أو معاش الأم، وأدت هذه السياسات إلى زيادات متواضعة في نسبة الولادة بعد توفير النقود، ولكن الحكومات عززت عبر هذه السياسات فكرة أن الأبوة والأمومة صعبة من دون مساعدة الدولة.
لكن الأساليب ذات الفاعلية الأكبر على المدى الطويل تمثلت في مساعدة النساء في الحصول على وظيفة مع منحهن مزايا لإنجاب الأطفال، مثل زيادة عدد أيام الإجازة التي يحصل عليها الوالدان لرعاية الأطفال، وتشجيع ساعات العمل المرنة، وهو ما حققت فيه ألمانيا بعض النجاح.
ومع تقدم عمر الوالدين المحتملين، تقدم دول أخرى مثل الدنمارك مزايا مختلفة، حيث يمكن للنساء دون سن الـ40، الحصول على ثلاث دورات من التلقيح الاصطناعي بتمويل من الدولة، والآن يولد عشر الأطفال الدنماركيين بمساعدة تكنولوجيا الإنجاب، وهي أعلى نسبة في العالم، كما أممت المجر عيادات أطفال الأنابيب في محاولة لزيادة المواليد.
لكن زيادة المواليد من خلال السياسات الحكومية لا تزال صعبة، ففي النرويج، وعلى الرغم من ساعات العمل المرنة للأسرة والرعاية الشاملة التي تتلقاها من الدولة، فإن معدل المواليد آخذ في الانخفاض لأن هناك بعض العوامل الاجتماعية والثقافية تجاه الأبوة التي تدخل خارج سيطرة الحكومة.
حلول أخرى
أما في الولايات المتحدة، فيسعى المشرعون إلى معالجة المشكلة بمجموعة متنوعة من المقترحات، وتشتمل خطة العائلات الأميركية التي تقترحها إدارة الرئيس جو بايدن، وتبلغ قيمتها 1.8 تريليون دولار، خفضاً ضريبياً على الأطفال، وتوفير رعاية مدعومة من الحكومة للأطفال، وأن تكون تكاليف التعليم في مرحلة ما قبل المدرسة مجانية، وأن تكون برامج الإجازة العائلية مدفوعة الأجر.
وإذا لم تستطع الدول الغنية رفع معدلات المواليد، فستحتاج إلى التفكير في حلول أخرى، مثل الانفتاح الأكبر لاستقبال مزيد من المهاجرين، الذين يكونون عادة في سن العمل عند وصولهم، ما يؤدي إلى تخفيف المشكلة، غير أن نمو التيارات المتشددة وازدياد معدلات العنف ضد المهاجرين قد يعوق هذه السياسات، وبخاصة عندما تكون تيارات اليمين المتشدد جزءاً من الحكومة، ومن غير المرجح أن ترحب الصين بأعداد كبيرة من المهاجرين لأسباب ثقافية، وهناك بديل آخر، وهو رفع سن التقاعد، لكن هذا لن يحظى بشعبية كبيرة.