السياسة

الدكتور احمد الصاوي استاذ العقيده والفلسفة بجامعه الازهر يكتب *هل جاء شيخ الأزهر متأخراً فعلاً ؟ ! ———

أثارت الحلقات التليفزيونية لفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، جدلاً كبيراً فى الأيام الأخيرة، مع محاولة البعض قراءة ما يقدِّمه الإمام الطيب بزعم أنه تحول أو تناقض، أو يُعبِّر عن مواقف طارئة مرتبطة بتأثيرات خارجية أو بتحوُّلات تحدث فى المنطقة.

تحدَّث الإمام الأكبر عن التجديد وأهميته وضرورته وأوانه، ورسم خطوات للمُضِىِّ فى تحقيقه، وشدَّد على أهمية الاجتهاد الجماعى وفرضيته، ودعا إلى عدم تقديس التراث، وإلى إنزاله المنزلة اللائقة دون إفراط أو تفريط، وحذَّر من الجمود والتقليد الحَرْفى، وخَلْط الفقه بالشريعة، وأبان بالأخذ بالحديث المتواتر فى العقائد دون أحاديث الآحاد، وعدم الخلط بين العقيدى والعملى فى الأحكام.

الدكتور احمد الصاوي استاذ العقيده والفلسفة بجامعه الازهر

هل يُمثِّل كلُّ ذلك تراجعاً أو تناقضاً أو انقلاباً أو سيراً فى رِكَاب مواقف خارجية حديثة؟

يحلو لبعض المدافعين عن شيخ الأزهر التأكيد على أن حلقاته التليفزيونية تم تسجيلها قبل شهر رمضان الفضيل وبداية أيامه، ما يعنى أن الحلقة الثامنة عشرة تحديداً التى أذيعت يوم ١٨ رمضان تم تسليمها لمحطات الإذاعة قبل خمسة أيام على الأقل من موعد إذاعتها، وتم الانتهاء من مونتاجها وتجهيزها قبل ذلك بأيام، ومن ثمَّ تكون قد سُجِّلت فى الأسبوع الأول من رمضان.

لكن هذه المعلومات- على صِحَّتها- ليست الرد الأنسب على تلك المزاعم، بقدر ما يكون البحث عن هذا التناقض المزعوم حال وجوده، أو ذاك الانقلاب، أو حتى التماهى مع خطابات الخارج.

هل قال الإمام الطيب جديداً فى موسمه الرمضانى الحالى؟

أستطيع أن أقول لك، وبالمعلومات المجرَّدة التى لا يجوز معها التأويل والتشكيك والتفنيد، إن كل ما طرحه الإمام من أفكار، وما عبَّر عنه من مواقف فى رمضان ٢٠٢١، ليس جديداً فى عناوينه، وإنما هو استكمال لخطاب ممتد وراسخ عبَّر عنه الإمام طوال ١٢ عاماً مضت على الأقل.. والنظر لهذه السنوات كخطٍّ زمنى واحد ومتتابع (Time line) ينفى وقوع أى تناقض أو انقلاب أو زعم بأن بعض المواقف طارئة، أو جاءت استجابة لخطابات سياسية، الثابت أن خطابات الإمام الأكبر أقدم منها زمنياً، وربما صدرت عن فضيلته قبل أن يدخل هؤلاء المتنفذون فى تلك الخطابات السياسية فى معادلات السلطة والسياسة فى بلادهم والإقليم.

أستطيع أن أحيلك فى هذا الـTime line إلى عام ٢٠٠٩؛ حيث كان الدكتور أحمد الطيب رئيساً لجامعة الأزهر، وكانت خريطة السياسة فى المنطقة بأشخاصها وأفكارها وتوجُّهاتها مختلفة تماماً عن العَقْد التالى، ولم يكن هناك خطاب زاعق يتعمَّد الهجوم على الأزهر وشيخه، واتهامه بالتقصير فى ملف التجديد.

فى هذا العام صدرت الطبعة الأولى من كتاب «مقالات فى التجديد» لكاتبه أحمد الطيب.. وفيه قال الرجل الطيب، فى فصل من الكتاب بعنوان «ضرورة التجديد»: «إن التجديد الذى ننتظره ينبغى أن يسير فى خطين متوازيين، أولهما: خط ينطلق فيه من القرآن والسنة أولاً، وبشكل أساسٍ، ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك، وليس المطلوب بطبيعة الحال خطاباً شمولياً لا تتعدد فيه الآراء ولا وجهات النظر؛ فمثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام فى أى عصر من عصور الازدهار أو الضعف، وإنما المطلوب خطاب خالٍ من الصراع ونفى الآخر، واحتكار الحقيقة فى مذهبٍ، ومصادرتها مذهباً آخر مماثلاً.
وثانى هذين الخطين المتوازيين للسير فى التجديد هو: خط موازٍ ننفتح فيه على الآخرين، بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها فى تشكيل إطار ثقافى عام يتصالح فيه أهل الفكر الإسلامى مع الليبراليين، ويبحثون فيه معاً عن صيغةٍ وسطى للتغلب على المرض المزمن الذى يستنزف طاقة أى تجديد واعد، ويقف لنجاحه بالمرصاد، وأعنى به: الانقسام التقليدى إزاء التراث والحداثة إلى تيار متشبث بالتراث كما هو، وتيار متغرِّب يدير ظهره للتراث، ثم تيارٍ إصلاحى خافت الصوت لا يكاد يُبينُ.

وهذا التيار الإصلاحى الوسطى فإننا نحسبه التيار المؤهَّل لحمل الأمانة، والجدير بمهمة التجديد المقدس الذى تتطلع إليه الأمة، وهو وحده القادر على تجديد الدين، لا تشويهه أو إلغائه، ولكن شريطة أن يتفادى الصراع الذى يستنزف طاقته من اليمين ومن اليسار».

ومن وضوح تلك الكلمات المبكرة جداً بنى الإمام الأكبر رؤيته، وعزَّزها برؤية واضحة حول التراث تتجاوز ما يُشاع عنه من فريق فى اليمين أنه متشبث به كلياً.. ومن فريق فى اليسار بأنه مُفرِّط فيه، وتؤكد أن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، ليس من أنصار التشبث المطلق بالتراث، مؤكداً أنه مثلما يختلف جذرياً مع الراغبين فى ترك التراث وتجاوزه، يختلف بذات القدر مع من يتشبثون به ويدعون للاكتفاء به دون التفات لمتغيرات العصر وما أنتجته الحداثة من معارف، ومحدداً منهجه فى تجديد التراث؛ باتخاذ مساحة وسطى تعمل على نبذ الصراع، وتأسيس هذا التيار الوسطى الذى ينهض من بين أصحاب الصوت العالى من المتطرفين على الجانبين، سواء كانوا أنصار ترك التراث أو الاكتفاء به.

وفى كتابه «التراث والتجديد.. مناقشات وردود»، الصادرة طبعته الأولى قبل عشر سنوات، أكد أن عملية التجديد يجب أن تقوم على أساس استيفاء الأصول والثوابت، وكل النصوص القطعية، مع الاجتهاد المنضبط بالنقل والعقل فى الفروع الظنية القابلة للتحرك لمواكبة ما يستجد من النوازل والقضايا؛ حتى لا يجىء التجديد هدماً وتبديداً للمُسلَّمات الأولى والثوابت القطعية للتراث وأصوله، ومسخه وتشويهه، و«التجديد الذى ننتظره ينبغى أن يسير فى خطين متوازيين، أولهما ينطلق من القرآن والسنة أولاً، ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث، والثانى: خطٌّ مُوازٍ ننفتح فيه على الآخرين بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها فى تشكيل إطار ثقافى عام يتصالح فيه أصحاب الفكر الإسلامى مع الليبراليين».

على هذا المنهج الراسخ الخالى من التأثير السياسى والضغط الإعلامى، بنى الإمام الطيب رؤية واضحة انعكست على مواقف الأزهر ودوره ومناهجه طوال السنوات العشر الأخيرة، وعبَّر عنه الإمام الطيب فى أكثر من موضع ومناسبة، وكتب عنه المقالات الموثقة فى أرشيف صحيفة «صوت الأزهر» منذ ٢٠١٧ حتى وقتنا هذا، كما أخرج به وثائق الأزهر فى بداية عقد التحولات الكبرى؛ لتكون تصدياً وطنياً كبيراً من الأزهر وإمامه لمحاولات خطف الدولة وهويتها الوسطية المتسامحة.

وارتكز عليه كذلك فى إطلاق إعلان الأزهر للمواطنة والتعايش فى ٢٠١٧، الذى رسَّخ فيه فقه دولة المواطنة، وأنهى استخدام مصطلح «أهل الذمة»، وقضى على إعادة تصدير أفكار التصادم الطائفى.

ومن هذا الفَهْم للتجديد خرج بيان الأزهر الشريف المناهض للتحرش فى ٢٠١٨ وسط إصرار من الإمام الطيب شخصياً أن يخرج خالياً من أى مبررات، خاصة تلك المتعلقة بملابس المرأة.

ومن هذا المنهج خرج الموقف الشرعى من رفض ختان الإناث وتأييد تجريمه القانونى، والتصدى الفقهى لوضع سِنٍّ قانونية للزواج؛ للقضاء على زواج الصغيرات.

فى سياق كل هذا الجهد الذى انعكس فى مواقف الأزهر وشيخه وفى وثائقه ومناهجه ومؤتمراته، ومنها مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى ٢٠١٥، والندوة التحضيرية لمؤتمر التجديد فى ذات العام؛ حيث أصَّل الإمام فى كلمته لمفهوم «الاجتهاد الجماعى» وشكله وشروطه، ولم يكن توقيع وثيقة الأخوَّة الإنسانية فى فبراير ٢٠١٩ بمعزل عن هذا الفهم وهذا المنهج، وغير منطلق من قلب رؤية التجديد، والارتكاز إلى القراءة العصرية الأزهرية للتراث.

لم تكن تلك الحلقات التليفزيونية هى المرة الأولى التى تحدَّث فيها الإمام الطيب عن عدم تقديس التراث؛ فقد صدرت صحيفة «صوت الأزهر»، الناطقة بلسان المشيخة فى يوليو ٢٠١٧، بعنوان عن الشيخ الأكبر: «التراث.. نُقدِّره ولا نُقدِّسه»، متضمناً حديثاً عن لجنة شكَّلها الإمام الأكبر لمراجعة الكتب التراثية وتقديمها بالشكل العصرى فى سياق ما هو مناسب للعصر، مع توضيح ما هو غير مناسب فى الشروح.

وفى بداية عام ٢٠٢٠ عقد الأزهر مؤتمره العالمى للتجديد، وصدرت عن المؤتمر وثيقة تمثل خريطة طريق للتجديد تشمل الآليات والقضايا.. وفى صدر الدعوة للمؤتمر، وقبل أن تبدأ فعالياته، تصدَّرت تلك الديباجة: «التراثُ ميراثُ الأمم؛ فإنَّ الأنبياءَ لم يُورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخَذَه أخذ بحظٍّ وافر، ولا يُبَدِّدُ ميراثَه إلا جاهلٌ أو مجنون، وهذا التراث نُعظِّمُه ونُقدِّرُه، ولا نُقدِّسُه، بل نُنزِّلُه منزلتَه اللائقةَ به من غير غُلُوٍّ ولا جَفاءٍ، ومن غيرِ إفراطٍ ولا تفريطٍ.
وعلى هذا سارت الأُمَّة قَوْلاً وعَمَلاً؛ فهناك أقوال كثيرةٌ تُؤكِّدُ عَدَمَ التقديسِ، وتدعو إلى ضَرُورةِ التجديدِ، ومن مأثورات أقوالِ العلماء:
كلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُترَك، إلا رسول الله.
لم يجتمع الحقُّ فى شخصٍ واحدٍ بعدَ رسولِ الله.
الحقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجَالِ.
وأمَّا عَمَلياً فمن المتواترِ أنَّ أصحابَ الأئمَّةِ الفقهاءِ خالَفُوا شُيُوخَهم فيما ظَهَرَ لهم خطَؤُه، أو رُجحانُ غيرِه عليه، وما مخالفاتُ أبى يوسف القاضى ومحمد بن الحسن الشيبانى لأبى حنيفةَ منَّا ببعيدٍ.
والنماذجُ الدالَّةُ على هذا كثيرةٌ فى تُراثنا التَّليدِ؛ فمنذ أن وُجِدَ الفقهُ كان الترجيحُ والاختيارُ، ومنذ أن وُجِدت المرويَّات كان نَقْدُها وتمحيصُها، فالتجديدُ كان ولا يَزالُ مُصاحِباً للتراثِ؛ فالمشكلة بين التراثِ والحاضرِ مُفتَعَلةٌ، ولا مُستَنَدَ لها من عقلٍ أو نقلٍ.
والتجديد الذى يُنادِى به الأزهر الشريف ويَتلمَّسُ سُبُلَ تحقيقِه، ينطلقُ من كتاب الله، وصحيحِ السنَّة، وصريح المعقول، ويُحافظ على الأصول، ويَبنِى عليها، ويَعرِفُ الثوابت، ويَستَمسِكُ بها، ويُدركُ المتغيِّرات، ويَلِين معها، وينفتحُ على الآخَرين؛ ليَفِيد ويَستَفِيد».
هذا نصٌّ موثَّقٌ أصدره الأزهر وشيخه قبل ١٤ شهراً، فى مؤتمر أساء إليه الصخب الإعلامى؛ حتى كاد يتبدَّد أثرُه رغم عظيم ما خرج منه، حين جرى التركيز على مساجلة استهدفت إظهار الإمام وكأنه متشبثٌ بالتراث كلياً ومُقدِّسٌ له، والحقيقة أنه كان يرد على من دعا لترك التراث كلية وإدارة الظهر له.. فيما أوضحت لك أن الإمام يختصم من يطلبون ترك التراث ومن يطلبون الاكتفاء به على السواء، ولو صادف الإمام فى ذات المؤتمر من يدعو للاكتفاء بالتراث وترك الحداثة لكان واجهه بنفس القوة وذات المنطق الراسخ.

وفى ختام هذا المؤتمر خرج بيان تجديدى تحت أى معيار تصدَّى لـ٢٩ مسألة، حاسماً به مرتكزات للتشدُّد بشأن الحاكمية، والهجرة، والخلافة، والتكفير، والمواطنة، والدولة، واختيار الحاكم، والجهاد.. وغيرها من المسائل، وفى قلبها أيضاً المساواة فى الأثر بين أحاديث الآحاد والحديث المتواتر؛ حيث أكد الإمام الأكبر أنه ومنذ الستينات يدرس فى الأزهر الشريف أنه لا تقوم أصول العقائد إلا على الحديث المتواتر.. وفى البيان تفريق واضح بين الأحكام العقائدية والأحكام العملية، ونسف لمنطق المتشددين فى الخلط بينهما.

بعد كل هذه الرحلة الممتدة لأكثر من عشر سنوات على الأقل باتساق كبير ومتناغم، زرع فيها الإمام الطيب ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض، وخرج فى موسمه الرمضانى الحالى يُعزِّز منهجه بمزيد من الشروح- يزعم البعض أن شيخ الأزهر انقلب على أفكاره، وتحرَّك بإشارات سياسية، وجاء متأخراً، بينما هم المتأخرون والذين لا يقرأون ويُحرِّكهم الغرض قبل الإشارات السياسية، وينقلبون على آرائهم وأفكارهم؛ فمنهم من كان يتحصَّن بالأزهر ضد التيارات المتشددة قبل عشر سنوات فقط، وبات ينسب التشدُّد للأزهر اليوم، ظناً منه أنه يسير على موجة سياسية المؤكد أنه التقط إشارتها بالخطأ.

الأزهر يُتَّبَع ولا يَتَّبِع.. هذا ما يقوله التاريخ وتُحدِّث به الوقائع ويثبته الـTime line.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى