عاجل

هكذا أسقط السّيسي مشروع أردوغان “العثماني”

بعد سلسلة خسارات سّياسيّة واستراتيجيّة، بدا أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد قرّر العودة إلى استراتيجية صديقه اللدود، ووزير خارجيته الأسبق، أحمد داود أوغلو: “صفر مشاكل” مع محيطه. تلك السياسة التي حين طلّقها، وطلّق منظّرها الاستراتيجي، قد انقلبت عليه “صفر أصدقاء، ووجد نفسه يتخبّط في بحر من الخصومات والعداوات، خلال محاولته الخروج من شرنقته الجغرافية والسياسية، إلى مطامحه ومطامعه الإمبراطورية، وإلى أحلامه التاريخية، باستعادة أمجاد أسلافه العثمانيين.

هكذا أعاد أردوغان التوجّه نحو مصر ونحو الخليج العربي، بعدما عاداهم طوال عقد تقريبًا، ومعهم الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى توتّر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وفي بعض الأحيان مع إيران.

لنعد بالذاكرة:

مع انطلاقة الرّبيع العربيّ عام 2011، وقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان داعماً شرساً للحركات التي كانت جسراً لتنظيم “الإخوان المسلمين” لاعتلاء السّلطة في عددٍ من الدّول العربيّة. وجد المناسبة سانحة ليدخل دولًا عربية من أبواب قصور الحكم فيها.

في العام نفسه، غرّد كاتبًا: “الرّبيع العربي ساهم في توعية الشعوب العربيّة وزيادة اهتمامهم بالديمقراطية، الأمر الذي سيساعد على نمو الدول العربيّة بصورة كبيرة إن شاء الله”.

لكن في عام 2019، مع وصول “الموس” إلى تركيا، تحوّل “الرّبيع” في نظر أردوغان إلى “شتاء حالك” لن يقدر على “ابتلاع” بلاده.

هكذا أعاد أردوغان التوجّه نحو مصر ونحو الخليج العربي، بعدما عاداهم طوال عقد تقريبًا، ومعهم الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى توتّر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وفي بعض الأحيان مع إيران

وجد أردوغان في الاحتجاجات، التي اندلعت في مصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق حتّى اليمن، تحت مُسمّى “الرّبيع العربي”، فرصَةً سانحة للتغلغل في مشروع “إعادة إحياء” الإمبراطوريّة العثمانيّة وحديثه الدّائم عن إقامة “تركيا الجديدة” على “أنقاض اتفاقيّة لوزان” التي مضت 100 عام على توقيعها، وانتهت صلاحياتها.

حُلم أردوغان التوسّعي وجد ضالّته في تنظيم الإخوان الذي “ركِبَ موجة الثّورة” في مصر، ووصلَ للمرّة الأولى إلى الحُكم عبر الرّئيس السّابق المعزول محمّد مرسي بعد فَشَل مُرشّح الإخوان الأساسي خيرت الشّاطر في الاستمرار بمعركة الرئاسة.

دخلَ مرسي قصر “الاتحاديّة” في 30 حزيران 2012 بعد 85 عاماً قضاها الإخوان في محاولة الوصول إلى السّلطة، إلّا أنّ أداء الإخوان في السّلطة ومحاولتهم تحويل التنظيم ومكتب الإرشاد إلى “دولة عميقة” وتغيير المُجتمع المصري كانت كفيلة باندلاع ثورة 30 حزيران 2013 التي أدّت إلى عزل مُرسي وخروج الإخوان من السّلطة في مصر. وكان مشهد توقيف مُرسي ومعه قيادات الإخوان وأعضاء مكتب الإرشاد أوّل خسارة مُدوّية لمشروع أردوغان التوسّعي في الدّول العربيّة. رفضَ الزعيم التركي الحالم عزل مرسي وتمنّع عن الاعتراف بشرعيّة الرّئيس عبد الفتّاح السّيسي.

الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى
ومع تسلُّم الرّئيس السّيسي السّلطة في مصر، شهدت البلاد نهضة اقتصاديّة وإصلاحيّة ضخمة أعادت مصر إلى السّاحة الدّوليّة من أوسع الأبواب. ولم يقف السّيسي عند حدود النّهضة الدّاخليّة، فنسج تحالفات واتفاقيات مع دول، خصوصاً مع قبرص واليونان، حفظت سيادة مصر في البحر المتوسّط بحزم وهدوء.

مصر التي أرادها أردوغان بوّابةً لحكم الإخوان في العالم العربيّ تحوّلت إلى سدٍّ منيع بوجه “أحلامه العثمانيّة”. فكانت الضّربة الثّانية، التي تلقاها الرئيس التُركي في خطاب الرّئيس السّيسي الذي رسَم “الخطّ الأحمر” للتدخّل التركي في ليبيا، حاضرةً حين قال في 20 حزيران 2020 أثناء تفقّده المنطقة العسكريّة الغربيّة: “خط سرت والجفرة خط أحمر بالنسبة لمصر وأمنها القومي، وأيّ تدخّل مباشر من جانب مصر في ليبيا باتت تتوافر له الشرعية الدوليّة”.

مع تسلُّم الرّئيس السّيسي السّلطة في مصر، شهدت البلاد نهضة اقتصاديّة وإصلاحيّة ضخمة أعادت مصر إلى السّاحة الدّوليّة من أوسع الأبواب

لم يكن الكلام عابرًا على الإطلاق. فالسيسي كان يعلم أنّ أردوغان الذي خرج من “باب” مصر يسعى للعودة إليها من شبّاك ليبيا بأي طريقة كانت. وكان السّيسي يعلم حقًّاً القدرة العسكريّة المصريّة التي فرضت عاملَ ردعٍ بوجه أردوغان أنّها حالت دون إكمال مسيرة “فتوحاته” نحو سرت والجفرة، بالإضافة إلى التفوّق بحكمِ الأرض وقرب المطارات العسكريّة المصريّة وخط الإمداد من الأراضي الليبيّة.

أمّا السّودان فلم يكن أحسن حالاً بالنّسبة لأردوغان. فسقوط نظام عمر البشير وخروج الإخوان من السّلطة وضعاه أمام خسارة جديدة. الرئيس المعزول منح أردوغان اتفاقيّة “سواكن” بحجة إعادة تأهيل الجزيرة الاستراتيجيّة على البحر الأحمر، واليوم تدرس السّلطة الانتقاليّة السّودانيّة إنهاء هذه الاتفاقيّة لاعتبارات تتعلّق بسيادة السّودان. وفي حال إلغاء الاتفاقيّة، يكون الرئيس التركي قد خسر ورقته المُهمّة الأخيرة التي يسعى من خلالها إلى تهديد العمق الاستراتيجي لكلّ من مصر والمملكة العربيّة السّعوديّة.

محاولة أردوغان التوسّع وإقلاق الأمن القومي المصري لم تقتصر على ليبيا والسّودان، بل وجد في سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزّة المحاذية للعريش المصريّة موطئ قدمٍ له، خصوصاً في فترة ابتعاد الحركة عن محور إيران – سوريا – حزب الله، بعد اندلاع الثّورة السّوريّة وتأييد رئيس مكتبها السّياسي السّابق خالد مشعل وإسماعيل هنيّة الانتفاضة ضدّ بشّار الأسد.

إيران بدورها سارعت إلى نزع ورقة غزّة من يد أردوغان، فأعادت حماس إلى “بيت الطّاعة الإيراني” عبر الرّباعي الأكثر تأثيراً على الصّعيدين الأمني والعسكري في الحركة: رئيس مكتبها السّياسي في غزّة يحيى السّنوار، نائب رئيس الحركة صالح العاروري، القيادي محمود الزّهار، وقائد كتائب عزّ الدّين القسّام الجناح العسكري للحركة محمّد الضّيف.

الانقلاب النّاعم الذي قادته طهران داخل حركة “حماس”، منح خالد مشعل إجازة طويلة الأمد ليحلّ مكانه اسماعيل هنيّة، الذي أدّى الاعتذار وأكثر خلال تشييع قائد قوّة القدس الأسبق في الحرس الثّوري قاسم سليماني، عندما كرّر على مسمع العالم عبارته الشّهيرة ثلاثاً: “شهيد القدس، شهيد القدس، شهيد القدس”،  وبالتّالي قاد هذا إلى تقليم أظفار أردوغان في القطاع.

محاولة أردوغان التوسّع وإقلاق الأمن القومي المصري لم تقتصر على ليبيا والسّودان، بل وجد في سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزّة المحاذية للعريش المصريّة موطئ قدمٍ له

أمّا في سوريا، التي وعد أردوغان أن يُصلّي في مسجدها الأمويّ، فوجد نفسه محاصراً بين أعظم قوّتين على وجه الأرض: الولايات المتحدة وروسيا، اللتين جعلتا حلم أردوغان يتدرّج من دمشق إلى إدلب فجرابلس فخطٍّ في منطقة شرق الفُرات يُمنع من تجاوزه.

التوتّرات التي تبنّاها أردوغان في إطار حلمه “العثماني” أدّت إلى تدهور العملة التركيّة أمام الدّولار الأميركي لتُسجّل خسائر فادحة بسبب ابتعاد المُستثمرين العرب عن تركيا رغم كلّ الحوافز التي حاول أردوغان تقديمها من جنسية وإقامةٍ دائمة وما سوى ذلك.

وبفعل التدخلات العسكريّة في سوريا وليبيا التي أنفق خلالها أردوغان مئات الملايين من الدّولارات من دون تحقيق أي نصرٍ استراتيجيّ يُذكر، بدأ التّدهور الاقتصادي، الذي وصلت إليه تركيا في عهد أردوغان، ينمّي المعارضة بوجهه. وهذا ما أكّدته انتخابات بلديّة اسطنبول وأنقرة وإزمير التي خسرها حزب العدالة والتنمية بفارق شاسع أمام حزب الشّعب الجمهوري المُعارض.

لقد دفعت هذه الخسائر المتتالية الرئيس التركي إلى إعلان “تجميد مشروعه” عبر التودّد لمصر والدّول العربيّة والخليجية على وجه الخصوص. وما كانت رسائل الغزل التي يُرسلها إلى مصر تحديداً، مفاجأة للمتابعين الذين يحفظون إصراره المتكرّر على وصف الرئيس السّيسي بـ”الانقلابي” ورفضه الاعتراف بشرعيّته. وبلغ حدّ الغزل التركي لمصر أن عرضت تركيا أن تلعب دور الوسيط بينها وبين أثيوبيا لحلّ مشكلة سدّ النهضة.

هل يصدق أردوغان هذه المرّة؟ وهل هي محاولة جديدة للالتفاف على مصر والعرب؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى