البحث عن حياة السيد أحمد إدريس في جامعة في بيرجن / ر. س. أوفاهي / ترجمة د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية للسيد أحمد بن إدريس الفاسي، التي يحتفي بها محبوه على امتداد العالم الاسلامي. وبهذه المناسبة أنشر هذا المقال الذي كتبه البروفسور ر. س. أوفاهي لتقديمة في فعالية حول السيد أحمد بن إدريس التي أقيمت بالمغرب عام 2009 وبعثه لي لترجمته، وقد لخص فيه الصلة التي جمعت بين جامعة بيرجن بالنرويج والسيد أحمد بن إدريس، وجعلته أحد محاور البحث فيها. وتعود صلتي بالبروفسير أوفاهي إلى تاريخ سابق لكتابة هذا المقال حين أذن لي بترجمة كتابه Enigmatic saint- Ahmed Ibn Idris and the Idrisi Tradition والذي نشر في العام 2008.
يوضح هذا المقال كيف أصبح السيد أحمد بن إدريس مداراً للبحث في جامعة بيرجن منذ منتصف الثمانينات وحتى التسعينات من القرن الماضي، كما يبين أيضاً بعض النتائج المستخلصة من ذلك البحث، ويقترح مجالات أخرى للاستقصاء يمكن تنفيذها في المستقبل.
التعريف بأحمد بن إدريس
يعد أحمد بن إدريس (1745-46 وحتى1837) أكثر المغاربة تأثيراً في القرن التاسع عشر، فقد أرسى من خلال تعاليمه وصلواته وتلاميذه، منهجاً علمياً وروحياً ذا جذور عميقة في كل من ليبيا والسودان والصومال، وانتشر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى دول البلقان، وخاصة إلى ألبانيا وكوسوفو، كما انتشر في جميع أنحاء المحيط الهندي إلى إندونيسيا وماليزيا وتايلاند.
ويمكن تلخيص حياته وسيرته، بأنه من الأشراف الأدارسة، ولد بالقرب من منطقة العرائش بالمغرب، في حوالي عام 1797- 1798 ودرس في مسجد القرويين ، ثم سافر شرقا واستقر بمكة المكرمة. وبقي فيها وحولها حتى عام 1828 باستثناء بعض الزيارات إلى صعيد مصر. ثم انتقل إلى عسير، التي كانت تشكل جزءاً من اليمن، وتوفي عام 1837. وللسيد أحمد بن إدريس ثلاثة تلاميذ أساسيين هم السيد محمد بن علي السنوسي (توفي عام 1859)، وهو مغربي تعود أصوله للجزائر وأسس الطريقة السنوسية في ليبيا، والسيد محمد عثمان الميرغني (توفي عام 1852) وهو من عائلة بارزة في المدينة المنورة، أسست أسرته الطريقة الختمية في السودان وأريتريا، والسيد إبراهيم الرشيد (توفي عام 1874) وهو سوداني يعد أحد أقرب ثلاثة ثلاميذ من استاذه ومنه تفرعت عدد من الطرق هي الصالحية (الصومال) والدندراوية (مصر والصومال). إلا أن عدداً من الباحثين تناولوا سيرة السيد أحمد بن إدريس بصورة مستقلة عن أي انتماء لطريقة صوفية.
هناك أمران هما أن السيد ابن إدريس ترك أرض المغرب وهو ناضج في بداية الأربعين من عمره، إلا أنه لا توجد له ذكرى في الأرض التي ولد فيها، وهذا يقود إلى مفارقة أخرى وهي عدم وجود بينة تدل على أن السيد ابن إدريس درس أو تلقى من أي شخص في المشرق. وبعبارة أخرى فإن تكوينه الفكري والروحي قد اكتمل قبل أن يغادر المغرب، وهذا ما يفتح الباب أمام دراسات أخرى حول أيامه في المغرب.
كيف جاء السيد ابن إدريس إلى بيرجن
أعتقد أن من المفيد توضيح كيف تسنى لي الارتباط بابن إدريس. فقد ذهبت إلى السودان أول مرة عام 1967 كمحاضر في التاريخ بجامعة الخرطوم عقب تخرجي من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بدرجة البكالوريوس في تاريخ أفريقيا والشرق الأوسط. وأثناء تدريسي في جامعة الخرطوم بدأت البحث في تاريخ سلطنات دارفور قبل الاستعمار، والذي أعددت فيه أطروحتي للدكتوراه. وفي عام 1970 تركت وأسرتي السودان لحاجة أكبر أبنائي لعناية طبية، وفي العام الذي يليه غادرنا إلى بيرجن بالنرويج حيث واصلت بحثي حول دارفور. واستقر بنا المقام بالنرويج، وتم تعييني في العام 1980 أستاذا للتاريخ في جامعة بيرجن.
نشرت خلال حياتي المهنية خمسة كتب وحوالي خمسين ورقة علمية حول دارفور، كما كتبت عن جوانب أخرى من تاريخ السودان وعلى وجه الخصوص أدب وتاريخ الاسلام في شرق افريقيا، والإسلام في شمال شرق أفريقيا بصورة عامة.
وأثناء بحثي حول دارفور تأثرت كثيراً بالمرحوم د. محمد إبراهيم أبو سليم (توفي عام 2006) مدير دار الوثائق القومية وأحد أكبر الأكاديميين في السودان. وفي عام 1976 رافقني في رحلة بحثية إلى دارفور أحد مساعدي محمد إبراهيم أبو سليم وهو علي صالح كرار. وفي عام 1984 جاء علي صالح كرار إلى بيرجن بعد أن أصبح مديراً مساعداً بدار الوثائق القومية، لكتابة أطروحة الدكتوراة تحت إشرافي، وكان موضوعه حول الطرق الصوفية والذي نشر فيما بعد.السيد
ابن إدريس في جامعة بيرجن
حقيقة أن المشرف يتعلم كثيراً من طلابه كما أن من المأمول أن يتعلم الطلاب من مشرفهم. وببساطة فقد قدمني علي صالح مع آخرين في جامعة بيرجن للسيد أحمد بن إدريس، واستغربت عن سبب عدم نشر دراسة جادة سواء اللغة العربية أو اللغات الأوربية عن ابن إدريس بالنظر لإهميته غير المشكوك فيها في العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر. وعلمت من علي أن د. يحيى محمد إبراهيم في دار الوثائق القومية يعد أيضاً بحثاً عن السيد ابن إدريس من زاوية سودانية، والذي نشره في كتب جيد. فعرفت أن السبب الأساسي لهذا الإهمال هو نقص مصادر المعلومات، وعليه انهمكت في جمع كل ما أجده مستخدماً الشبكات الأكاديمية التي انتمي لها. ونجحنا أنا وزملاؤنا وطلابنا في هذا الصدد، ولم يكن أقلنا نجاحاً أبو سليم وعلي صالح كرار ويحيى محمد إبراهيم.
واكتشفت أن كل شيء دون عن ابن إدريس في الكتابات الغربية كان مخطئاً ومضللاً. وإذا عن لي أن أقول شيئاً شخصياً، فقد اكتشفت أنه حقيقة كان أصيلاُ ومبهراً وجذاباً إلى حد بعيد وكل هذا يشع من كتاباته.
بنهاية عقد الثمانينات والبداية التسعينات كان هناك عدد من الباحثين في جامعة بيرجن ينقبون في مختلف الجوانب فيما أطلقت عليه المدرسة الإدريسية. وأوردهم هنا بناء على صفاتهم ونشرهم الأكاديمي:
1- آن ك. بانق (باحث رئيسي بجامعة بيرجن)
2- جوزيف ن. بيل (استاذ ممتاز بجامعة بيرجن)
3- البريخت هوفينز (أستاذ بجامعة أوسلو)
4- بريندت راتيك (أستاذ ممتاز بجامعة ألبرت، هولاند)
5- مارك سيدوك (أستاذ بجامعة أودينس، الدنمارك)
6- إينار ثوماسسين (أستاذ بجامعة بيرجن)
وقد ساهم كل هؤلاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة في دراسة أحمد بن إدريس والمدرسة الإدريسية.
إضافة إلى ذلك، فقد درج على زيارتنا بصورة منتظمة في بيرجن الدكتور أبو سليم ويحيى محمد إبراهيم وعلي كرار وغيرهم من الباحثين، سودانيين وغيرهم. وكان من دواعي سروري أن تعرفت في أوائل التسعينيات على السادة الأدارسة في الموردة بأم درمان، وبعد حوالي عشرين عاماً من ذلك جدد ابني دومينيك هذه الصلة.
نشرت كتابي (الولي الغامض)، في عام 1990، قبل عشرين عاماً لأوضح للعالم الأكاديمي أهمية السيد إدريس والحاجة إلى مزيد من البحث حوله. ولقي الكتاب استحساناً، فقد نحت الدراسات الغربية الحديثة عن الإسلام الآن إلى عدم تكرار المفاهيم الخاطئة التي ارتكبها الباحثون الأوائل. وسرتني على نحو خاص الترجمة العربية الرائعة التي قام بها الدكتور أبوذر الغفاري بشير لكتاب (الولي الغامض)
المستقبل
النسبة للمستقبل اسمحوا لي أن أجيب على سؤالين: أين تضع الدراسات الأكاديمية الغربية الآن السيد ابن إدريس ضمن منظومة التاريخ الفكري والديني الإسلامي؟ ثانيا وهو الأهم، ما الذي تبقى للقيام به؟
يعيب الدراسات الأكاديمية الغربية نظرتها إلى الإسلام، فتفترض وجود عداء تلقائي بين الغرب والإسلام. ولا أود التركيز على هذا الجانب، إلا أن الإمبريالية الغربية ألقت بظلالها على دراسات الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما وصفها وحللها إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. فوفق الرؤية الغربية، وُصف القادة المسلمون إما أنهم “مقاومون” مثل عبد القادر الجزائري من الجزائر، أو “متعاونون” مثل محمد عبده في مصر. وغني عن القول إن هذا تضخيم مبالغ فيه. ففي كتاب الولي الغامض، ذكرت أن هدف السيد أحمد بن إدريس كان ببساطة جعل المسلم العادي شخصاً حسناً، وأن يتم هذا بهدوء ودون جدل.
ورد ذكر السيد ابن إدريس أول مرة في الكتابات الغربية في ثمانينات القرن التاسع عشر من قبل علماء وإداريين فرنسيين في المغرب، مثل لويس رين، ولو شاتلير وغيرهم. وصوروه على أنه العقل المدبر الذي يقف من خلف المقاومة الإسلامية للإمبريالية الغربية، مثل تروتسكي، مع الاعتذار للمقارنة. وتم الإدعاء بأن المقاومة السنوسية للإمبريالية الإيطالية في ليبيا، ومقاومة محمد عبد اللي حسن عضو الطريقة الصالحية وهي فرع من الرشيدية في الصومال، كانت عميلة لمؤامرة مستلهمة من السيد ابن إدريس، وهذا بلا شك أمر زائف ومضلل. وقد سعيت في كتابي الولي الغامض والكتابات اللاحقة أن أبين أن السيد ابن إدريس كان عالماً ومتصوفاً ومعلماً، وكانت مهمته الأساسية تعليم المسلمين أن يكونوا مسلمين أفاضل. ويبدو أنه كان واعياً بما يجري في العالم، ولكن ذلك لم يكن شاغله الرئيسي. أضع هذه الخلاصة مع إدراكي التام أن الباحثين في المستقبل قد يتوصلون إلى استنتاجات مختلفة. فكل جيل يفسر ماضيه على ضوء حاجات حاضره.
يؤكد السيد ابن إدريس في رسائله وكتابه الرّد على أهل الرأي، على مسؤولية كل مسلم عن خلاصه الشخصي. وبالنسبة للأكاديمي غير مسلم، فإن هذا موقف حديث جداً، ولكنني أترك الأمر لمن هم مؤهلون بشكل أفضل لتقرير مدى صحتة في هذا الفهم.
أما السؤال الثاني، فما الذي تبقى عمله من التقاء جامعة بيرجن والسيد بن إدريس في الثمانينيات والتسعينيات؟ على الصعيد المادي تتوفر في جامعة بيرجن عن المدرسة الإدريسية، مجموعة تضم حوالي ألفي مادة أو تزيد، من بينها كتب ومنشورات وميكروفيلم وزيروروكسي، باللغات العربية والتركية والماليزية والصومالية، وترسل علاقة الوصل بين جامعة بيرجن وأحمد بن إدريس دعوة ضمنية للعلماء المسلمين وغيرهم ، للبناء على أبحاثنا والاستفادة القصوى من المادة التي بحوزتنا، وإحدى المهام المتبقية هي فهرسة المواد التي لدينا وإتاحتها على أوسع نطاق. وآمل إذا سمحت صحتي، أن أنشر فهرساً مفصلاً، في نسخة ورقية والكترونيةـ ومن الطبيعي أن يكون باللغة العربية. وسيكون هذا الفهرس مساهمتي الأخيرة في الدراسات الإدريسية.
أما المهمة الأكثر أهمية فهي نشر كتابات السيد أحمد بن إدريس بشكل كامل ودقيق، وبعبارة أخرى استكمال أعمال المرحوم عبد الغني الجعفري، الذي بدأ هذا المشروع في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في القاهرة، وستكون مجموعة بيرجن نقطة البداية. وهناك حاجة لبحث علمي في الأقصر (مصر) وزبيد وصنعاء (اليمن) واسطنبول وأماكن أخرى (على سبيل المثال في ألبانيا)، وأيضاً حول كتابات عمر بشيرازي باللغة الألبانية والعربية، و الكوسوفوية، فأعتقد أن هناك مخطوطات إدريسية في بريشتينا. وبالمثل، فإن كتابات تلاميذ ابن إدريس الرئيسيين، السنوسي والميرغني والرشيد، تحتاج إلى التنقيب فيها وقراءتها وتحليلها.
إذا كان بإمكاني أن أقترح نقطة للبداية، فستكون مخطوطة كتاب العقد النفيس في نظم تدريس السيد أحمد بن إدريس في جامعة ييل، وهي خلاصة تعاليمه الوحيدة التي كتبت على التحقيق خلال حياته. وهي عمل رائع يعود تاريخه إلى حوالي عام 1828، مع تعليقات على الهامش من قبل عديد من علماء صنعاء، وهم عدد من طلاب محمد بن علي الشوكاني. والمهمة الثانية هي الطبعات الصحيحة لصلواته (دعوات، وحزاب، وأوراد وغيرها) مع شروح الهجرسي والبيطار. ويمكن الحصول على معظم هذه المواد في جامعة بيرجن. أما المرحلة الثالثة فتتضمن تجميع تفسير منظم، وهذه ستكون مهمة عظيمة، وسيكون تاج التفاسيرللسيد الميرغني، نقطة البدء.
تعليق شخصي أخير: أنا لست متديناً على نحو تقليدي، لكن ارتباطي بأحمد بن إدريس على مدى ما يقرب من ثلاثين عاماً كان أحد حقائق حياتي. فعلى مدى سنين، قرأت وأعدت قراءة “الصلوات الأربعة عشر” للسيد أحمد بن إدريس لرقة وجمال شعورها ولغتها.