تحليل: فجوة في العلاقات بين مغرب محمد السادس وألمانيا ميركل
بعد “صدمة” رسالة وزير الخارجية المغربي المسرّبة التي توجه مؤسسات ومصالح الحكومة المغربية إلى تعليق اتصالاتها بالسفارة الألمانية ومؤسسات التعاون والتبادل الألمانية بالمغرب، حان وقت قراءة تداعياتها على علاقات البلدين.
في برلين يبدو وقع المفاجأة من رسالة وزير الخارجية المغربي فيما بتعليق بالاتصال مع السفارة الألمانية في الرباط، قد أخذ مداه وبدأ يفسح المجال لطرح الأسئلة حول حقيقة ما يجري في علاقات البلدين. وقد تحركت آلية الاتصالات واللقاءات الثنائية بلقاء بين وزير الدولة بوزارة الخارجية الألمانية مع السفيرة المغربية ببرلين زهور العلوي، ومن غير المستبعد أن تعقبها لقاءات ثنائية أخرى على مستويات أعلى.
في السنوات القليلة الأخيرة ظهرت بوادر تباعد في مواقف البلدين إزاء قضايا مثل الهجرة والأمن، لكن تم احتواؤها عبر الاتصالات على أعلى مستوى بين العاهل المغربي الملك محمد السادس والمستشارة أنغيلا ميركل، وتم توقيع مذكرة تفاهم حول “شراكة استراتيجية”، كما مهد ذلك لاحتضان المغرب قمة دولية حول الهجرة في نهاية سنة 2018 شاركت فيها المستشارة ميركل.
ورغم أن المغرب يحظى بوضعية “الشراكة المتقدمة” مع الإتحاد الأوروبي، فقد شهدت سنتي 2016 و2017 أزمة على مستوى مفاوضات الطرفين لتجديد اتفاقية الصيد البحري، حيث قرر المغرب تجميد الاتصالات مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي كرد فعل على قرار من المحكمة الأوروبية يقضي باستثناء مناطق إقليم الصحراء المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو، من اتفاقية الصيد البحري. وبعد مفاوضات عسيرة توصل الطرفان الأوروبي والمغربي سنة 2018 إلى تجديد الاتفاقية، وكان من تداعياتها أضرار في علاقات برلين بالرباط.
بيد أن الإمتحان الصعب سيكون في ملف الصحراء، عندما تولى الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر مهمة مبعوث أممي للصحراء الغربية، وقاد محادثات لم تحرز اختراقا في الملف الذي شهد جمودا لسنوات، كما أن الرباط لم تكن راضية عن تعاطي الوسيط الألماني مع مقترحها بإقامة حكم ذاتي موسع، في الوقت الذي رحبت به عواصم غربية أخرى بذلك. ولم تكن قد مضت سنتان على توليه مهمة الوساطة الدولية، حتى قدم كولر في مايو أيار 2019 استقالته “لأسباب صحية”.
ومع مطلع سنة 2020 بدأت الأزمة الصامتة بين البلدين تخرج إلى السطح، بدءا بالملف الليبي حيث وصف المغرب عدم دعوته إلى مؤتمر برلين بمثابة “إقصاء” لبلد لعب دورا أساسيا في اتفاق الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة. ثم ظهر خلاف آخر أكثر حدة، إثر اعتراف إدارة الرئيس السابق ترامب بسيادة المغرب على الصحراء، الذي اتخذت منه ألمانيا مسافة وبادرت إلى طلب اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي وكانت عضوا غير دائم فيه، الأمر الذي أثار غضب المغرب.
نقطة نظام في مسار العلاقات!
رسالة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة التي سُرّبت عبر مواقع ووسائل إعلام مغربية، ويطلب فيها من الحكومة عدم الاتصال بالسفارة الألمانية ومؤسسات التعاون والتبادل السياسي والثقافي، أثارت مفاجأة برلين بمحتواها وبشكلها “الفريد” أو غير المسبوق، على حد وصف مقرر شؤون أفريقيا في كتلة الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) في البرلمان الألماني الاتحادي (بوندستاغ)، أورليش ليشته في حوار لـ DW. كما أثارت الرسالة مفاجأة لدى المؤسسات السياسية الألمانية النشيطة بالمغرب، والتي تبدو مستهدفة برسالة وزير الخارجية المغربي.
ولأن الرسالة لم تكن تحمل طابعا حادّا وفق العرف الديبلوماسي، فقد تعاطت الخارجية الألمانية معها بتريث، وذكّرت بالعلاقات “الطيبة” التي تربطها بالمغرب، وباشرت بدعوة السفيرة المغربية لمناقشة الإشكالات المطروحة والتي وصفها وزير الخارجية المغربي في رسالته بـ”سوء تفاهمات عميقة”.
ويبدو أن الخطوة المغربية وتوقيتها بالخصوص، قد اٌختيرت بعناية من قبل الرباط، فهي تأتي في منعطف مهم في العلاقات الأطلسية (الأوروبية – الأمريكية) بعد تولي إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، وبتزامن مع فتح المحكمة الأوروبية من جديد ملف اتفاقية الصيد البحري الموقعة مع المغرب. كما تأتي هذه الخطوة في الأشهر الأخيرة من ولاية المستشارة ميركل، وبداية الحديث عن ملامح السياسة الخارجية الألمانية في المرحلة المقبلة.
ولذلك تعتبر الخطوة المغربية محاولة لوضع نقطة نظام في مسار علاقات البلدين، بعد سنوات من الأزمة الصامتة، وظهور مؤشرات على تباعد في وجهات نظر إزاء ملفات استراتيجية على الأصعدة المغاربية والأفريقية والأوروبية.
فجوة في التواصل على مستوى القمة
أحد وجوه المفاجأة التي أثارتها الخطوة المغربية، أن ألمانيا التي تعتبر المغرب صديقا تقليديا وتخلو علاقاتها معه من أي نزاع، وجدت نفسها لأول مرة في مواجهة أزمة غير مسبوقة مع هذا البلد. وبقراءة مسار تطور علاقات البلدين، يمكن رصد ثلاثة عناصر أساسية قد يكون لها دور حاسم فيما اعترى العلاقات في الفترة الأخيرة ويمكن أن تمتد آثارها إلى المستقبل إذا لم يؤد الحوار بين مسؤولي البلدين إلى مخرجات استراتيجية.
أولهما، ظهور فجوة ملحوظة في التواصل على مستوى أعلى هرم الدولة، فخلال عقدين ونيف منذ تولي الملك محمد السادس للعرش لم يقم بأي زيارة رسمية إلى ألمانيا، وبدورها لم تقم المستشارة أنغيلا ميركل منذ توليها الحكم بزيارة المغرب إلا في مناسبة واحدة هي المؤتمر الدولي للهجرة في ديسمبر كانون الأول 2018، وحتى على هامشه لم تلتق المستشارة الألمانية بالعاهل المغربي.
وكانت آخر زيارة لرئيس حكومة مغربي(ادريس جطو) لبرلين في سنة 2006 مع بداية حكم المستشارة ميركل.
وتعود أهم زيارة ثنائية على مستوى عال تمت بين البلدين خلال العقدين الماضيين، إلى سنة 2000 عندما زار رئيس الحكومة المغربية الراحل عبد الرحمن اليوسفي رفيقه في الإشتراكية الدولية، المستشار السابق غيرهارد شرودر.
وما عدا الزيارة التي قام بها وزير الاقتصاد الألماني ونائب المستشارة، زيغمار غابرييل للمغرب سنة 2016 ولقاءه برئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران الذي اكتسى طابعا مهما على المستوى الاقتصادي، فقد اتسمت معظم الزيارات التي تبادلها مسؤولو البلدين بطابع تشاوري أو تفاوضي حول ملفات جزئية، مثل الطاقة أو الهجرة أو الأمن.
إلا أن غياب أو ندرة اللقاءات على مستوى القمة (لقاءات قليلة تمت بين الملك محمد السادس والمستشارة ميركل على هامش مؤتمرات دولية)، لا يعني أن العلاقات لم تشهد تطورا إيجابيا في العقدين الأخيرين، فقد حققت المبادلات التجارية نموا ملحوظا وبلغت قيمتها 3,2 مليار يورو ويعتبر المغرب ثالث شريك تجاري لألمانيا في القارة الأفريقية بعد كل من جنوب أفريقيا ومصر. كما يستفيد المغرب من مساعدات تنموية ألمانية بقيمة مئات الملايين من اليوروهات.
نظرة سلبية متبادلة؟
يكمن العنصر الثاني في الفجوة القائمة في علاقات البلدين، في وجود ما يشبه نظرة سلبية متبادلة بين صناع القرار في ألمانيا والمغرب تلعب دورا مهما في ميزان العلاقات الثنائية أو على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية لكل منهما.
ومن اللافت في هذا السياق أن الطابع التقليدي في علاقات الصداقة التاريخية بين المغرب وألمانيا “الغربية” أو الإتحادية، تخللها فترات من الدفء والقوة في حالات استثنائية عديدة، وكانت من منظور مغربي بمثابة خطوات معاكسة لفرنسا، إذ تزامنت مع أزمات في العلاقات مع مستعمره السابق.
ويعود أقدمها، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى بداية الستينات عندما كان المغرب من بين ثلاثة بلدان عربية(بالإضافة إلى تونس وليبيا) حافظت على علاقتها بألمانيا الإتحادية في مواجهة المقاطعة العربية التي قادتها مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بسبب العلاقات الخاصة بين إسرائيل وألمانيا الاتحادية وتطبيق هذه الأخيرة “مبدأ هالشتاين”. حيث قام الملك الراحل الحسن الثاني بزيارة تاريخية إلى بون عاصمة ألمانيا الاتحادية السابقة في سنة 1965 وإلتقى بالمستشار الراحل لودفيغ إيرهارت، وكان لتلك الزيارة زخم خاص في دعم اتفاقيات هجرة اليد العاملة المغربية إلى ألمانيا.
وفي سنة 1996، حيث كانت العلاقات الفرنسية المغربية قد وصلت مداها من البرود في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، خصص الملك الراحل الحسن الثاني استقبالا تاريخيا لمستشار الوحدة الألمانية هيلموت كول، وبدأ الحديث في الخطاب السياسي المغربي إبانها عن إمكانية استلهام الوحدة الفيدرالية الألمانية كنموذج لحل نزاع الصحراء.
وعلى امتداد العقدين الأخيرين، لم تتعرض العلاقات الألمانية المغربية إلى أزمات بل حافظت على طابع صداقة تتراوح بين الدفء والبرودة، ولكن برودة العلاقات ستأخذ منحى سلبيا وأكثر حدة في السنوات القليلة الأخيرة.
ففي الوقت الذي شهد فيه دور ألمانيا عودة قوية على الساحة الدولية وخصوصا على مستوى دورها القيادي للإتحاد الأوروبي، ظلت بوصلة الرباط موجهة إلى الشريك التاريخي فرنسا. وهو ما انعكس على مستويات اقتصادية وديبلوماسية واستراتيجية، حيث وجد المغرب نفسه أحيانا في مواجهة النفوذ الألماني داخل المؤسسات الأوروبية، وأحيانا حتى لمصلحة الجارة الشمالية إسبانيا.
وبالمقابل فان المغاربة كانوا يرون بأن برلين لا تضع تقديرا كافيا للدور القيادي المتنامي للمملكة على الصعيد الإقليمي والأفريقي، ومن ثم باتوا يربطون بين “ضعف إهتمام” ألمانيا بدور المغرب والأهمية التي توليها لعلاقاتها مع الجزائر سواء على الصعيد الثنائي أو على صعيد قضايا إقليمية مثل الأزمة الليبية أو ترتيبات الأمن في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية.
وفي ظل تنامي علاقات الشراكة بين ألمانيا والجزائر وتزايد ثقل المصالح المتبادلة والمتمثلة بالخصوص في صادرات الطاقة الجزائرية نحو ألمانيا وارتفاع حجم مبيعات الأسلحة الألمانية للجزائر، أصبحت ردود الفعل الألمانية وخطواتها في ملفات شمال أفريقيا وخصوصا ملف الصحراء، تُحسب في الرباط في سياق “تحوّل في موقف ألمانيا” عن حيادها التقليدي، بينما تشدد برلين على أنها تحافظ على موقفها في نزاع الصحراء القائم على قاعدتي التسوية الأممية، والحل التفاوضي بين طرفي النزاع.
حسابات المستقبل
ويكمن العنصر الثالث، في حسابات تطور العلاقات في المرحلة المقبلة. فالخطوة التي أقدم عليها المغرب، قد تدفع صانعي القرار في برلين إلى إعادة تقييم الدور المغربي، في ضوء المعطيات الجديدة، كما أن حوارا مغربيا ألمانيا معمقا حول الملفات الخلافية، يفترض أن يقود أيضا إلى مراجعة في نظرة المغرب لدور ألمانيا.
وقد لاحظ مقرر شؤون أفريقيا في كتلة الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) في البرلمان الألماني الاتحادي (بوندستاغ)، أورليش ليشته، أنه بعد الموقف الأخير للولايات المتحدة الأمريكية من ملف الصحراء والتطور الذي حدث في معبر الكركارات، فان
معظم خبراء الشأن المغربي من الألمان وغيرهم يتفقون بأن المغرب يتحدث حاليا عن ملف الصحراء من موقع قوة.
وفي مقال مشترك لثلاثة من محرريها الخبراء بالشأن المغربي كتبت صحيفة “دي فيلت” الألمانية بأن “سلوك المملكة هو دليل على ثقة جديدة بالنفس نمت مؤخرا على خلفية التقدير الذي حظيت به من طرف دونالد ترامب وإقامة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل”. وترصد الصحيفة في عددها الصادر يوم 2 مارس آذار 2021، مؤشرين إضافيين أولهما “الدور الرئيسي الذي يلعبه المغرب في الحد من الهجرة من شمال أفريقيا إلى أوروبا” وثانيهما “أن المملكة تعتدّ بدورها القيادي الجديد المتنامي بشكل متواصل في أفريقيا التي توجه إليها 70 في المائة من استثمارات المغرب في الخارج”.
ورغم إدراك الخبراء الألمان بالشأن المغربي، بأن الرئيس الفعلي للسياسة الخارجية في المغرب هو الملك، ففقد توقفت الصحيفة الألمانية المحافظة عند شخصية وزير الخارجية المغربي، ووصفته: “وزير الخارجية ناصر بوريطة، وهو مستقل سياسيا، وتلقى تكوينه في الغرب وواثق جدا من نفسه، يمثل جيلا جديدا من القادة في البلاد الذين يريدون إعادة تشكيل المغرب برؤية استشرافية براغماتية”.
وتأتي هذه القراءات الألمانية لدور المغرب وتحركه الأخير، في مرحلة دقيقة سواء بالنسبة لألمانيا التي تستعد لنهاية حقبة المستشارة أنغيلا ميركل، أو في سياق المتغيرات المحتملة في الاستراتيجيات الأمريكية والأوروبية إزاء ملفات شمال أفريقيا والقارة السمراء عموما.