**أشرف الفراني** / يكتب #طفولة#الطيارات#الورقية
نحن أبناء الريف وأولياء الكَتاتيب ، ودراويش المتوفر ، وحفدة الحرمان وسطوة المتاح ؛ قد تربينا علي الحلم والسكينة والهدوء والبساطة حتي في أحلامنا ، سذاجتنا كانت أقرب إلينا من حبل الوريد ، منذ مطلع السبعينيات كان معظم أبناء جيلي وما قبله بسنوات خمس تحملنا نوازع الطيبة والمودة والتواصل المدفوع بوفاء نادر وباحترام الكبير ، وتقدير الأمهات وتقديس الجيرة وجيرة الجيرة والمعرفة ولو سطحية ، كبرنا علي دفء الرباط العائلي ، وأواصر القربي.
جذبتنا متعة الحكاوي وشهوة السَرْد ليلاً حين نلتقي في الوحدة الصحية الريفية القديمة التي كانت مبنية علي طراز الستينيات ، والتي كنا نشتم فيها رائحة العزة والكرامة وروح الأب التليد خالد الذكر الزعيم/جمال عبد الناصر ، كانت أعظم خصوصيتنا ومتعتنا حين نتقابل في خفاء عن أعين الناس فوق “مكنة” الباشا برهان نور بجوار السرايا ، نتجاذب أطراف الحديث حتي مغيب الشمس ، ولا نتركها إلا خوفاً من الجنيات والعفاريت التي ملأت عقولنا منذ الصغر ولم نشاهدها قط ، كنا منكفئين لا نعرف شيئاً عن اللعب والسهر والخروج والفسح ، حتي سَكَنَ قريتنا إحدي الأسر المهجّرة من مدينة بورسعيد الباسلة والمعروفة بعائلة “أرْدَش” شباب وبنات سواحلية متنورين من أبناء البحر المالح الذي لا يستعصي عليه الإجابة عن أي سؤال ، ولا يخجل من طرحه أيضاً .
كانوا في عمر الطلق الجامح والمتحرر -من وجهة نظرنا آنذاك- أبهرونا بطريقة كلامهم وملبسهم ومأكلهم وأسلوبهم الجديد في الحياة ، كانوا محترمين ومهذبين وودودين ومتفتحين أيضاً ، ويتمتعون بالذكاء الإجتماعي الذي ساهم في بناء علاقات قوية ومتينة بينهم وبين كل شباب القرية ، علمونا السهر وكتابة الشعر والرسم ورسائل الغرام وقراءة الكتب والمجلات الملونة ، ولعب الكوتشينة والطاولة والشطرنج وصناعة صنارات الصيد ، و ..وشرب السجائر .. لقد علمونا الحب .. بل علمونا الحياة ، ووضعوا أيدينا -نحن المتأخرون- علي سر جمالها المدفون ، وحيويتها وخصوبتها وأهميتها المكنونة ..أخرجونا من شرنقة الخجل والانطواء وسوءَة البراءة المتصنعة .. أثروا في أجيال كثيرة كانت مغلقة بحكم تربيتها الجامدة “والمتقشفة” والبسيطة والمطيعة لكل أشكال الأوامر والنواهي الأبوية المستبدة في الغالب ، والظروف الاقتصادية المتواضعة للبعض والمُعدمة للأكثرية.
علمونا التمرد علي الواقع ، وجرأة الأسئلة والاعتراض والإندفاع “بأدب” نحو تحقيق رغباتنا المكبوتة ، علمونا أن الحياة مبنية علي المغامرة والتجريب والكشف لكل مجاهلها المخبوءة ، أفراد من الأجيال الكبيرة في القرية كانت تعرف شيئا من هذا كله من السهر ولعب الكوتشينة والذهاب إلي سيما التحرير بدكرنس ، لكننا بحكم سننا الصغير بدأنا نتحسس طريقنا نحو الانعتاق من القيود بفضل شباب هذه الأسرة وأسلوبهم الحر في الحياة ، فذهبنا إلي السيما وتسكعنا في المدينة وجلسنا علي المقاهي ، وحملنا تحت إبطنا الجرائد ، ومشينا في زهو التجديد ، وبدأنا بالتواصل الخفي “والكريم” مع البنات بدواعي الشعور بالحضور والتعبير عن الذات ، وقتل الفراغ الروحي والنفسي الذي يهفو إلي حاسة الملء لا أكثر ولا أقل.
وبدأنا نعبر عما بداخلنا ، ونطالب ببعض حقوقنا من المصروف لشراء سنانير وخيوط وكرة قدم بلاستيك ، والتي تطورت مع الجرأة المكتسبة إلي كرة كَفَر ، وفانلة عليها رقم 10وشورت من المتاجر الشعبية وكاوتش من باتا وشراب بلون الفانلة … وألوان للرسم ، لكن ستظل “الطائرات الورقية” الضخمة والتي كانت تتجاوز محيطها المترين وزيلها العشرة أمتار هي أجمل ما تعلمنا صناعته من أولاد أرْدَش ، وكانت من عنفوانها لا نستطيع التحكم بها إلا إذا ربطنا خيطها “الكسوة ” التخين في حديد الكوبري ، لأنها كانت تمتلك المقدرة علي رفع رجلين بالغين وإلقائهما في البحر ليخرجا مع تسقيف الجموع علي الشاطئين عند فاتحة أبو رياض ، الطائرات الورقية كانوا يصنعونها علي هيئة حيوانات.
التراث الشعبي المنبثق من حكاية اللمبي .. الذي فتح مستغلقات القرية المصرية ونورها وثقفها وحررها بفضل هجرة أهل مدن القناة إليها زمن الحرب ، وأعظم ما تعلمناه منهم هو الحس الوطني ، وروح التحدي والمغامرة والخروج من شرنقات الريف الذي طمس الله عليه بأدبيات توارثناها جيلاً فجيلاً ، ورسخت في أذهاننا بأن “من خاف سِلِم” والمشي جنب الحيطة وسيلة الرضي والنجاح المضمونة .. وسأظل ما حييت أحمل هذه الذكريات الرائعة في قلبي ، كما أحمل أسمي آيات الحب والمودة والتقدير لأصدقائي من أسرة “أردش” الذين علموني أن أسأل .. وبعفوية نافرة .. من أنا ؟!