القبلة والمصافحة هي الضحية الأبرز للجائحة…حتى إشعار آخر – رأي * فيصل جلول
معروف أن جائحة الكورونا ليست الأولى من نوعها في العالم، فقد سبقتها ظواهر اشد خطرا وتسببت بملايين الضحايا. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، الكوليرا والطاعون في القرن التاسع عشر، وصولا الى الحمى الاسبانية في مطالع القرن العشرين والتي أدت الى موت ملايين الناس حيث يقدر عدد الضحايا بين 50 و100 مليون نسمة وهو رقم يوازي أو يتجاوز عدد ضحايا الحرب العالمية الاولى.
جائحة الكورونا قد تكون اقرب الى الحمى الاسبانية من غيرها، ذلك ان المرض يستهدف في الحالتين الجهاز التنفسي وفي الحالتين يحتاج المصاب لقدر كبير من المناعة حتى ينتصر عليها وفي الحالتين ما كان العلاج متوفرا لمجابهتها اثناء انتشارها. وفي الحالتين ايضا تتجاوز الجائحة بالعدوى الحدود والحضارات والاعراق والطبقات الاجتماعية. وفي الحالتين توسع اللامساواة بين المصابين فيتلقى الثري علاجا اهم وافضل ويترك الفقير لمصيره، كما هي حال الفقراء السود هذه الايام في الجنوب الامريكي. وفي الحالتين تصيب الجائحة المشاهير ايضا فقد اصابت الحمى الاسبانية فرديريك ترامب جد الرئيس الامريكي دونالد ترامب واصابت الشاعر الفرنسي المعروف ابولينير والاديب ادمون روستاند وفرانز كافكا وعالم الاجتماع المؤسس ماكس فيبر وافراد من العائلة المالكة في اسبانيا واللورد مارك سايكس الذي وقع على الاتفاقية الموسومة باسمه “سايكس بيكو” والتي ادت الى نشؤ اسرائيل وتشطير العالم العربي. اما الكورونا فقد اصابت رئيس الوزراء البريطاني على ما اعلن ونواب ووزراء فرنسين وعددا من المسؤولين في دول مختلفة وهي مازالت تصيب اخرين. في الحالتين جرى الاستخفاف بالجائحة عند وقوعها عموما. وفي الحالتين ايضا وايضا انتشرت نظرية المؤامرة حولها فقد اتهمت المانيا حينذاك بنشر سلاح بيولوجي لكن سرعان ما تراجع الاتهام عندما ضربت الجائحة الالمان ايضا. ومع الكورونا نظريات المؤامرة منتشرة بكثرة: الولايات المتحدة تسميها الجائحة الصينية فيرد الصينيون بالحديث عن نقل العدوى لبلادهم بواسطة الجنود الامريكيين.
ومن بين المشابهات قياس اثر الجائحة على الجيوبوليتيك حيث كانت تخشى الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى من ان تظهر ضعيفة امام اعدائها المهزومين في حين كانت المانيا المهزومة تخشى من ان تعتقد الدول المنتصرة في الحرب ان الحمى الاسبانية تضاعف هزيمتها. ونرى اليوم التوقعات يمينا ويسار حول خروج الغرب ضعيفا بعد نهاية الجائحة في حين تخرج الصين وروسيا قوية لا بل وصل الامر بوزير الخارجية الفرنسي الى استدعاء السفير الصيني في باريس وتنبيهه الى الامتناع عن استخدام الكورونا في تشويه سمعة الغربيين. كما يتهم محللون غربيون الصين بنقل بيادقها خطوات الى الامام في عالم ما بعد الجائحة لأغراض جيوسياسية.
واخيرا سلكت الجائحتان طريق العولمة وانتشرتا بواسطتها عبر المراكب والبحار بالنسبة للحمى الاسبانية وعبر وسائل النقل الجوي ــــ اساسا ــــ بالنسبة للكورونا كما بدا واضحا ان الانسان الابيض نقل امراضا لم تكن تعرفها الشعوب التي استعمرها في افريقيا واسيا وحمل منها امراضا ما كانت معروفة في اوروبا والغرب.
هنا لا بد من التمييز بين العولمة الموسعة التي نعيشها وعولمة بدايات القرن العشرين ويومنا هذا. والتمييز يطال عناصر كثيرة ابرزها الوقت اللازم للانتقال من امبراطورية الوسط الى الغرب والذي يقدر بعدة اسابيع في البحر وساعات معدودة جوا هذه الايام . لكن الفارق الاساسي بين الجائحتين ان الاسبانية اصابت الشبان عموما بين 15 و45 سنة فيما الكورونا تستهدف كبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة كمرض ضغط الدم والسكري والسرطان… وسائر من يشكون من نقص في المناعة. وفي حين لم يعرف العالم اسم الجائحة الاسبانية الا في العام 1933 فان اسم الكورونا سبق وقوعها. ويبقى ان العالم ما كانت تديره منظمة الصحة العالمية التي تتولى اليوم تنظيم وسائل مكافحة الكورونا والأمراض والاوبئة المختلفة.
اما عن النتائج المترتبة على فيروس الكورونا، فالراجح انها ستكون اسوأ من الحمى الاسبانية على الصعيد الاقتصادي حيث توقف كل شيء تقريبا واقتصاد العالم على حافة الخطر ــــ ان لم يكن اكثر مما نتوقع ــــــــ لكن الاستعدادات والوسائل الطبية لمكافحة الجائحة تبدو اليوم افضل بما لا يقاس من مطالع القرن العشرين.
لذا يمكن القول دون عناء كبير ان الحدود التي اقفلت اليوم بين الدول ستعود بعد الجائحة الى سابق عهدها والدولة الامة لن تعود مجددا الى الحياة في اوروبا لأنها لم تبنى في الاصل لأسباب صحية حتى تزول للاسباب والراجح ان تعود جزئيا فقط لتبني اولويات صحية وإنقاذية. ولن ينتهي دور البورصات وسيعود الاقتصاد العالمي الى العمل مجددا تماما كما حصل بعد الجائحة الاسبانية. ولعل اسئلة كثيرة اخرى مازالت مطروحة لارتباطها بطريقة ونوع العلاج واللقاح المنتظر لمكافحة الكورونا وحجم الاضرار الذي سيقع خلال فترة الحجر الصحي.
يبقى ان بعض العادات الاجتماعية قد تتغير اقله قبل اكتشاف اللقاح المناعي ضد الجائحة. ولعل القبلة او المصافحة تكون الضحية الاكبر لفيروس الكورونا.. حتى اشعار اخر