نزوات الإعلام – بقلم / اشرف الفراني
منذ أن تم خصخصة الإعلام ووافقت الدولة بالترخيص لقنوات تليفزيونية خاصة بالعمل ، وكذلك إصدار تراخيص لمئات الصحف والمجلات ، إضافة لترخيص مئات الصحف من ( قبرص ) بالمخالفة للقوانين ، وسمحت الدولة لهم بالعمل دون متابعة ورقابة وإجراءات أمنية ومحاسبية ، ربما إيماناً منها بحرية الصحافة والإعلام ، وحرية الرأي والتعبير طبقاً لمواد الدستور ، وفي حق حصول المواطنين علي المعلومات وتبادلها ، وإبداء آرائهم عبر وسائل التواصل المختلفة المقروءة والمرئية ووسائل التكنولوجيا الحديثة ، أو ربما لحسابات أخري ، نري أن العاملين بالصحافة والإعلام فقدوا القدرة بامتياز علي مواصلة لعب هذا الدور العظيم .
وتعاملوا مع الإعلام بفلسفة القطعة مدفوعة الأجر ، والمنفعة مسبقة الدفع ، الأمر الذي جعل المشهد عبثي وفوضوي وصادم ؟ وجاء في مجمله خسارة مضنية علي حرية الرأي والتعبير ، كما أنه بات خسارة فادحة علي تاريخ الصحافة والإعلام المصري الرائد ، ولا نستثني من ذلك الإعلام الرسمي للدولة الذي فقد كثير من مصداقيته لموالاته التبجحية وإصراره علي “النفاق والتملق” العلني التطوعي ، وتجرده من الحرفية والمهنية أيضاً ، وبرغم تأسيس الهيئة الوطنية للإعلام واحتوائها علي زمرة محترمة من أصحاب المهنة.
وتسخير كافة إمكانات الدولة لها عبر “رقمنة” الإعلام الذكي وتحديثه ، وجدولة الديون وإسقاط أجزاء منها ودعم كل مراحل المهنة ، إلا أن الإعلام الخاص قد ابتعد عن الموضوعية والحياد والتجرد ، وتبرأ من الرسالة الهادفة لدور الإعلام في كشف الحقائق ومراقبة الحكومات بشفافية ونزاهة ، وتمكين المجتمع بكل أطيافه من توصيل صوته وإعلان رأيه ونشر وإذاعة وجهات نظره المختلفة بأمانة وصدق ، لتثقيف وتنوير المجتمع في إطار من الإلتزام بالمواثيق الإعلامية والصحفية المتفق عليها دولياً ومحلياً ، والمنصوص عليها في القانون ، فكان الإنقسام والاستقطاب والفرقة والتناحر ، وتنامي للغة الخطاب المتدنية والبذيئة بل والمنحطة ، وظهور ما يطلق عليه دلالة علي التواطؤ “بالأجندات” متعددة الجنسيات ، ومتنوعة التوجهات خارجية وداخلية ، والمعروفة شُبهة “بالصحافة الصفراء” أو سُبة “بالإعلام الأسود” واللَّذين لعبا دوراً سيئاً وحقيراً ضد مصالح هذا الوطن العليا ، وضد الشعب في غالب الأوقات ، وأصبح البيزنس هو المحرك الأول والأخير لهذا القطاع الضخم.
وباتت تجارة رائجة في تهييج الرأي العام واستثارته واستثمار انفعالاته في موضوعات مختلقة وكاذبة ومشوهة ، وخلق فضاء موازي للحقائق عبر تجسيد الشائعات وترويجها بحرفية تخلو من الأصول الراسخة للمهنة ، وانعدام الأخلاق ، إلي درجة الخيانة ، ذلك لتحقيق أكبر نسب مشاهدة ومن ثم تنشيط الإعلانات مدفوعة الأجر ومحددة النسبة لمقدمي البرامج ، كما أن الإبتزاز والمساومة صفة مذمومة يتصف بها كثير من القنوات والصحف والمواقع الأليكترونية والعاملين بها ، فضلاً عن تحقيق مصالح مباشرة لمالكيها من طبقة رجال الأعمال بالضغط علي السلطة “وتوهم” لوي ذراعها ، هؤلاء المندسون في المهنة ، والذين أفسدوا هذا القطاع الحيوي الذي يمثل “السلطة الرابعة” -مع تحفظي علي الخطأ الذي ورد في ترجمة هذا المصطلح إلي العربية- والذي شجع الكثيرين علي ممارسة “التسلط” بموجب هذه الترجمة …
إن كل ما تقدم شيئ والحديث عن فوضي الانتساب للمهنة أعتبره شيئ آخر ، حيث امتلأت البلاد بعشرات الآلاف -إن لم يكن بمئات الآلاف- من الإعلاميين والصحفيين والمراسلين والمندوبين والمراقبين المنتسبين لما يطلق عليه “صحافة بير السلم” وحاملي كارنيهات “السحاب” ، وليس لهم أية علاقة بالنقابات المهنية التي تمنح تراخيص مزاولة المهنة ، وتراقب الآداء المهني ، وتحيل المخالفين للتحقيق ، وربما تجمد أو توقف أو تشطب من يخرج قاصداً متعمداً علي ما اتفقت عليه الجماعة الصحفية في ميثاق الشرف الصحفي ، معظم هؤلاء خارج الإطار القانوني جملة وتفصيلاً ، مما خلق جو عام من الترصد والمشاكل والصراعات والنزاعات القانونية ، وزرع مرير لعدم الثقة المتبادل ، إضافة إلي تشويه المهنة ومحو رصيدها المتوارث من صدور المصريين ، علي دورها القومي والعبقري في تاريخ الكفاح الوطني من أجل التحرر وحق تقرير المصير ، فضلاً عن تاريخها الحر في الدفاع عن الحريات العامة والمقهورين في كل العصور ، والزود عن الوطن في كل المحافل الدولية ..
وتصوري أن الصحافة والإعلام هما الخاسران بفضل تداعيات كل ماسبق .. لأن هذا في أفضل الحالات قد جعل الأكاذيب والأباطيل هي السائدة في المجتمع ، وتلاشت الحقائق ، وماتت الروح الإبداعية للمهنة ، وصار هذا الإعلام فاقداً لأدني معايير النزاهة والشفافية والمصداقية ، وأصبح باهتاً ومتخلفاً ، وتم اختزاله في الوعي العام للناس بكلمة واحدة هي “السبوبة” التي خُلقت من رحم “نزوات” الإعلاميين أنفسهم ، ونفوسهم المعتلة ، وأطماعهم الرخيصة ، لأنهم بهذه الممارسات الشاذة التي اقترفوها ؛ أصبح الإعلام غير موثوق به في كل الأحوال .. إلا من رحم ربي !