ماذا يطبخ تجار فلسطين على نار جهنم
بقلم : نصار جرادة؟
مقدمة : كنا سابقا كغيرنا من عوام الناس مع المقاومة – كفكر وممارسة -على اختلاف أنواعها وأطيافها ، نغتبط بها ونُهلل لها ونُقدس رموزها ونُجل روادها ، لأننا كنا نعتقد مخلصين أنها تمارس في سبيل الله والوطن والشعب والقضية ، أي قبل أن تتحول إلى مشروع استثماري خاص ناجح ويتحول أقطابها إلى تجار كبار وسماسرة يقتاتون كالعلق من بؤس الناس ومعاناتهم ، يخطفون البلاد ويذلون العباد ويتنمرون عليهم ويقوضون مقومات صمودهم ويجعلون حياتهم جحيما لا يطاق ويدفعون قطاعا واسعا منهم – بوعي أو بدون – للكفر بكل قيمة وطنية أو مبدأ وكذا للهجرة وترك الديار !! .
أما بعد : لا يمكن لعاقل أو ذي لب أو بصيرة أن يصدق أو يؤمن بعشوائية ما يحصل حاليا من تطورات بفلسطين وبقضيتها وبحياة من تبقى صامدا من شعبها على أرضها ، فجل ما حصل ويحصل خصوصا في العقد الأخير من مصائب وكوارث وحروب و ويلات وتدمير للبنى الاجتماعية والاقتصادية ولصمود الناس وأحلامهم في الخلاص وفي غد أفضل ، مخطط ممنهج ومدروس بلا شك ويشارك في صناعته بوعي تام وقصد مباشر أكيد منتفعون ومنبطحون محليون وعرب ومتآمرون دوليون أغراب .
لا يثير حفيظتي وحنقي – كفلسطيني معذب مصلوب ومقهور – وجود متآمرين أغراب بقدر ما يؤلمني جدا ويشعرني بالعار وبنحس القضية وجود منتفعين ومنبطحين محليين وعرب ربطوا وجودهم وحيواتهم ومصالحهم بوجود ومصالح المحتل ، منتفعون يرتدون أثوابا وحللا للوطنية والتقى والمقاومة والعفاف وكذا زبانية صغار كثر لهؤلاء من متلقي العطايا الزهيدة التافهة الباحثون عن أي دور حتى لو كان دور كومبارس أو شاهد زور أو قواد ثانوي في مسرحية سياتراجيدي طويلة كثرت مشاهدها وتعددت فصولها البائسة المخزية .
ولفهم أعمق لما نذهب إليه ونعتقد يتوجب عليك صديقي القارئ العودة معي قليلا إلى الوراء وتحديدا إلى صيف العام 2005 لتدرك وتعي جيدا وبوضوح تام أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة حينها أو فك الارتباط بحسب التسمية الإسرائيلية لم يكن عملا اضطراريا اقتضته ظروف المرحلة والمكان ، فقد تعمدت إسرائيل تنفيذ إعادة انتشار خارج القطاع وحوله دون أدنى تنسيق ودون أي تعاهد واضح أو صريح مع السلطة صاحبة الولاية القانونية والسياسية ، وذلك عنى بصراحة وبدون أدنى لبس أن إسرائيل لن تكون مسئولة مستقبلا عما سيحصل من تداعيات سلبية أو مأساوية في القطاع بسبب ذلك التصرف الأحادي الخطير.
وقد كانت الدولة المحتلة بحكم خبرتها الطويلة في حكم القطاع الساحلي الصغير شحيح الموارد والمكتظ بالسكان تعي جيدا وتعرف مقدار تعطش الفلسطينيون على اختلاف أطيافهم ومشاربهم لممارسة السلطة ودور الحاكم بأي شكل أو كيفية ، وقد كانت تغذي عمدا وبسوء نية عبر أذنابها وعملائها وإعلامها المغرض ، الفوضى والانفلات الأمني والتناقضات الداخلية التي قادت إلى حصول ما حصل بعد أقل من عامين من انسحابها الإسفيني !! ، ونخلص من ذلك إلى أن الانسحاب لم يكن هروبا من ضربات المقاومة وبحثا من الإسرائيليين عن السلامة كما زعم البعض وروج مستغفلا ولا زال لجماهيره السذج ولعموم الشعب ، ولكن تحضيرا لمسرح سيشهد اخطر العمليات .
ويؤكد صحة ما نذهب إليه ونعتقد بالمجمل الدلائل الحاصلة التالية :
أولا : لا يعقل أن يكون الانقسام الحاصل الحالي عملا اضطراريا لا مفر منه ولا راد له ولا بديل ، عمل اقتضته الظروف الخاصة الداخلية للقطاع والتناقضات البينية والخصومات ، لأنه لو كان كذلك حقا فإن التراجع عنه وإنهاؤه سيكون عملا يسيرا سهلا ولم يكن ليحتاج كل ما بذل من جهد طول هذه السنوات العجاف في سبيل القضاء علية دون أي نتيجة تذكر أو نجاح ، إذن نحن أمام عبث خطير مدبر بالقضية وبحياة الناس ومصائرهم ، عبث مخطط له ، غير عشوائي أو تلقائي ، نُفّذ بمكر شديد عميق وبعناية فائقة لغايات مؤكدة ، منها شرذمة الحالة الفلسطينية وإضعافها وتيئيس الناس وترويضهم وتحضيرهم لقبول الأسوأ والأرذل ونعني بذلك تصفية القضية وإنهاؤها تماما لا قدر الله .
ثانيا : ولا يعقل أيضا أن يكون التحول الفجائي الكبير في طبيعة العمل المقاوم من الناحية التسليحية ، وليد حاجة ماسة أو ضرورة ملحة ، لأن التسلح الصاروخي الحاصل والمضخم عامدا مهما كبر ونما وتطور سيظل بدائيا ولن يكون بمقدوره حسم معركة كبرى واحدة مع العدو فضلا عن دحره وهزم مشروعه الاستيطاني وتحقيق النصر التام عليه ، وكما لن يكون قادرا في الغالب سوى على إيذاء مدنيين قلة حظهم عاثر من مدنيي العدو ، لن يكون قادرا في الوقت ذاته على حماية جماهير شعبنا ومدنيينا من عمليات الثأر وردات الفعل الانتقامية المحددة بعناية والتي قد يُقدم عليها العدو ، وعليه فإن تضخيم القدرات العسكرية الكرتونية لنا كفلسطينيين والتحول المقصود المدروس الممنهج وغير العشوائي إلى ما يشبه الجيش في نظر العالم الخارجي والجماهير يهدف فقط من وجهة نظرنا لهدفين اثنين لا ثالث لهما
أولهما : إظهار العدو بمظهر الضحية والمعتدى عليه أمام العالم الظالم المنحاز أصلا وتسهيل مهمة العدو تلك ، وثانيهما : إيهام الجماهير الساذجة المغيبة بتحقيق انتصارات زائفة من حين لآخر على العدو وإنجاز معادلات ردع معه ، وذلك بلا شك مقدمة ضرورية لتهيئة الأجواء والظروف لشيء قادم أخطر وهو ترسيم حدود أمر واقع بين جيشين لكيانين احدهما هزيل قميء مسخ وتوكيد ذلك رويدا رويدا بفعل التقادم الزمني وكذا بتفاهمات سرية مباشرة أو عبر وسطاء ، دونما حاجة لتوثيق ذلك على الورق بمعاهدات ولأجل غير مسمى ، معاهدات ستكون بالتأكيد مجحفة استنادا لموازين قوى مختل لصالح المحتل على الأرض وفاضحة إن نشرت على الملأ ، معاهدات ستثير بلا شك علامات تعجب واستفهام واستنكار وربما ثورة مضادة لدي شعب مغيب مطحون مضحوك عليه ، شعب قد يفيق يوما ما ليدرك حجم الكارثة ويعرف من أودى به ومن شارك .
ثالثا : ولا يعقل أبدا أن تكون المعركة – معركة البناء والتحرير – طويلة جدا وقاسية وشاقة وميادينها متعددة متشابكة ، بدءا من بناء الإنسان تعليميا وتثقيفيا وتنظيميا ورعايته صحيا وبدنيا ونفسيا وصولا لتوفير كل مقومات الصمود له والحياة الكريمة وعلى رأسها السكن والعمل في مجتمع العدل النسبي والكفاية المنشودة وسيادة القانون ويكون الأداء على كل هذه المستويات ضعيفا جدا ومتدنيا ، يكاد يلامس الصفر ، ففي غزة التي تتصدر مشهد البؤس والمقاومة في آن ، يتوارى العدل ويتأخر كثيرا وينتشر الظلم والفساد والواسطة والمحسوبية ويتقدم الانتماء الحزبي ويطفو على السطح ليشفع لصاحبه إن داس القوانين أو إن طغى و تجبر ، وإن أثرى هذا الأخير بلا سبب واضح مقبول لا أحد يسأله من أين لك هذا ؟
لأن مقولة ( هذا من فضل ربي ) تتصدر وتعلو وتنتصر وتخرس كل صوت ، ويكثر العوز وينتشر الفقر ويستشري ، وكذا الفساد والتلوث السياسي والبيئي والانحلال الأخلاقي والأمراض الاجتماعية المرتبطة بكليهما وتعاطي المخدرات على اختلاف أنواعها وتتصدر حوادث الانتحار والقتل الأخبار ومواقع الانترنت من حين لآخر ، والشماعة الوحيدة لكل ذلك هي الحصار والاحتلال ، ويغيب السؤال عامدا ، من الذي جلب الحصار ؟! ، ومن الذي شارك في ذلك بحسن نية أو بدون ؟! وهل كان ذلك حقا قدرا مقدورا ؟!
ولِم استمر اثنا عشر عاما ؟! ولِم في ظله اغتنى البعض وصار مليونيرا ؟! أعني في الوقت الذي افتقر فيه جل الناس !! ولِم جرى عامدا استبعاد كافة الكفاءات الوظيفية من مواقع العمل الحكومي وإحلال بدائل تفتقر للخبرة والكفاءة خصوصا في مجالي الصحة والتعليم ، ولِم تمت مصادرة حقوق الناس في انتخاب من يمثلهم ويقودهم على مدار عقد ونيّف ؟! ، ولِم يستمر القمع ويمنع الناس من الجأر والتظاهر السلمي والشكوى؟!
… أسئلة جوهرية كثيرة تبحث عن إجابات حقيقية غير مفبركة أو منحازة أو مغرضة ، أسئلة جوهرية متشابكة لا يمكن أن نجد لها جميعا إلا إجابة واحدة منطقية مقبولة : وهي أن كل ما حصل ويحصل جزء من مخطط مُعد مُمنهج ومدروس ينفذ ببطء وبعناية فائقة وبدهاء شديد لتحقيق غايات قذرة للاحتلال والاستبداد الداخلي المتوافق معه بغير محض الصدفة !!
الاستبداد الماكر الثعلبي صاحب الرايات العالية والشعارات البراقة المخادعة ، الميكافيللي باطنا ، والمعني فقط بالحفاظ على مصالحه الضيقة ومكتسباته الخاصة بكل السبل والوسائل ، ومن لا يعرف بأنه يوجد في الواقع الفلسطيني فصائل عدة قليلة تتحكم نسبيا بالمجتمع الفلسطيني وبحركيته ونموه وتطوره فضلا عن الاحتلال المتحكم الأول والأقوى والأشد تأثيرا ، وهي تفتقر للبعد الديمقراطي الحقيقي في علاقاتها الداخلية والوطنية وللنزاهة والشفافية ومتأثرة كثيرا بأبعاد أخرى كالجهوية والعشائرية ، تُقدس المصلحة الخاصة وتُعلي شأنها وتُقدمها على كل ما عداها ، فليراجع قدرته العقلية .
وحتى لا نُفهم خطأ فنحن لسنا ضد المقاومة بالجملة وبالمطلق ، ولكن ضد تغولها وتسلط بعض أقطابها وعناصرها على رقاب الناس ، نحن مع المقاومة الواعية التي لا تُستدرج لمعارك جانبية أو ثانوية فتستنزف مُقدّرات الوطن والمطحونين ، المقاومة التي تحمي ظهور الناس ولا تستقوي عليهم أو ترهبهم ، المقاومة التي تعزز صمودهم على أرضهم وفي وطنهم ، المقاومة التي لا تقف عقبة في سبيل ممارسة الناس لحقوقهم وتمتعهم بحرياتهم العامة والخاصة ، المقاومة التي تعرف حدود القوانين والإجراءات وتقف عندها ، المقاومة التي لا تشارك في الصراع السياسي الداخلي بأي شكل وتُبقي أصبعها على الزناد وعينها على المحتل لأن المعركة معه طويلة جدا ومركبة وشاقة والحياة يجب أن تستمر بكافة جوانبها عملا وبناءا وإنتاجا وزراعة وسفرا وعلاجا وتعليما وتجارة … الخ ، ظني أنها ليست صرخة في واد ويقيني أنها كلمة حق في وجه سلطان فاسد ظالم جائر !!