مقالات

مصر وأمريكا : من التبعية إلى الندية / بقلم – ميسره السيد .. باحثة ماجستير علوم سياسية


أرسى الموقع الجيوستراتيجي لمصر دورًا مهمًا في المكانة الفريدة التي تحصلت عليها، مما مهد الطريق أمامها للعب أدورًا فاعلةً في المنطقة، بل الإقليم بأجمعه على مر التاريخ، فمصر تقع في قلب العالم، وهي دولة أفروآسيوية فمساحتها الممتدة في آسيا هي: شبه جزيرة سيناء التي تمثل 6% من مساحة مصر، كما أن قناة السويس التي تربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر تستحوذ على١٢% من تجارة العالم، بالإضافة إلى الثروة البشرية والاقتصادية التي تتمتع بها البلاد، وأيضًا الثروة المعدنية والتراث التاريخي الممتدد لأكثر من آلاف سنة. لقد خاضت مصر عدة حروب دفاعًا عن أراضيها وحماية أمنها القومي منذ أقدم العصور حتى وقتنا الراهن، حيث أنها كانت ولازالت مطمعًا للغزاة ومقبرة لهم عبر التاريخ.

ميسره السيد
باحثة ماجستير علوم سياسية


تعود العلاقات المصرية – الأمريكية إلى القرن التاسع عشر، وكان أول تمثيل أمريكي في مصر من خلال افتتاح قنصلية لها بالإسكندرية 12 يناير 1832، وقد مرت العلاقات بين الدولتين بمراحل صعود وهبوط على مدى السنوات السابقة، وكان لأمريكا دورًا بارزًا في إنهاء أزمة السويس عام 1956، حيث يبدو أن مصر كانت البوابة التي أرست من خلالها كلًا من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وجودهما رسميًا في نسق ثنائي القطبية، وبالتالي عصر التعددية الذي كانت فرنسا وإنجلترا أهم أطرافه قد ولى، بيد أن تدهورت العلاقات بين الدولتين عقب المساندة الأمريكية في إسرائيل عام 1967و 1973، ثم عادت العلاقات مرة أخرى عام 1974 وبدأ فصل جديد في العلاقة بين مصر وأمريكا، حيث أصبح ” السلام في الشرق الأوسط” هو المحور الأساسي للعلاقات بين البلدين رغم تغللها عدة اختلافات في وجهات النظر، إلا أنها ظلت ملازمة لأمريكا وتعيش على المساعدات المقدمة لها.
ومثلت الشراكة الاستراتيجية بين البلدين إحدى ركائز السياسة الخارجية المصرية؛ مما أسهم في اتفاقية السلام عام 1979، فلقد بدأت مظاهر التبعية الأمريكية منذ منتصف السبعينيات أي منذ نصف قرن، وتبعًا لذلك فقدت مصر جزءًا من مركزيتها وأولويتها، بل تراجع دورها الإقليمي، ومع التحولات التي حدثت في المنطقة منذ 2011، ظهرت توترات بين الطرفين مما أفضى إلى ضرورة إعادة تقييم وتأسيس الشراكة بين البلدين، وبرزت قضايا أخرى هامة، مثل: محاربة الإرهاب والتنمية المستدامة و الاستجابة للتغيرات المناخية. لقد كان أهمية الحفاظ على السلام في عهد التبعية انعكاسه السلبي على الثقل السياسي والطموحي في صالح أمريكا، وفي أعقاب 30 يونيو 2013، تبنت السياسة الخارجية المصرية أهدافًا ومبادئ جديدة، حيث أنها نشطت في العديد من الدوائر، منها: الدائرة العربية والإفريقية، كما أنها استعادت قدرًا من التوازن في علاقتها مع أمريكا، وفي ذات الوقت فتحت آفاقًا جديدة للعلاقات مع قوى أخرى مثل: الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي.
لقد أجبرت مصر على حالة التبعية في ظل ظروف دولية مكنت الولايات المتحدة من إرساء سيطرتها على النسق الأحادي القطبية، وبذلك هيمنت على العالم، وبالتالي لم يكن يوجد فرصة أمام مصر سوى الخيار الأمريكي بخاصةً عقب الأجواء السياسية والعسكرية المضطربة التي عاشتها مصر منذ حرب فلسطين 1948 وحتى استرداد طابا 1989، وبدأت العلاقات العسكرية مع أمريكا عام 1976وباتت مصر تحتل المركز الثاني في قائمة الدول التي تتلقى معونات عسكرية من أمريكا وكانت تقدر بقيمة 1,3 مليار دولار، وقد أعلن الرئيس الراحل محمد أنور السادات أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، وكان لها الدور الرئيسي في عملية السلام 1979 بين مصر وإسرائيل. ومع حالة التغير الدولي وبروز قوى كبرى على الساحة الدولبة تتجه معظم الآراء أن العالم مُقبل على نسق متعدد الأطراف قوامه: أمريكا وروسيا والصين، وبالتالي فيمكن توصيف العلاقات المصرية – الأمريكية في الوقت الحالي بأنها في حالة تحول من التبعية إلى الندية وليس استقلال، حيث أن الطريق لايزال طويلًا وصعبًا لاسيما أن العالم تغلله فواعل دوليين رئيسيين غير الدولة القومية، مما يعني أنه لا حدود فعليًا بين الدول، ويكمن الاختلاف في درجة التبعية فقط من دولة إلى أخرى.
والحقيقة أن مصر استطاعت اقتناص الفرصة لبداية عودتها إلى دورها الرائد في المنطقة، بخاصةً مع تراجع الدور الأمريكي في المنطقة ووجود قوى أخرى منافسة لها، ولكن لا يتصور للبعض أن الخروج المصري من التبعية الأمريكية سيكون مرحب به، بل العكس تمامًا حيث أن الولايات المتحدة لاتزال تضغط على مصر بملف حقوق الإنسان – وهنا تتحدث عن أبرز شروطها: إنهاء القضية 173 الخاصة بمحاكمة نشطاء المجتمع المدني وإخلاء سبيل 16 شخصًا-، كما أنها استقطعت جزءًا من المعونة العسكرية المقدمة لمصر بقيمة 130 مليون دولار في سبتمبر 2022، ولكن هذا القرار لم يكن جديدًا على صانع القرار المصري، حيث جمدت أمريكا المساعدات العسكرية لمصر في 2013 ثم تراجعت عن القرار في 2015 إلا أن الدولة المصرية في خلال هذه الفترة قد اعتمدت – ولازالت تعتمد- على تنويع مصادر السلاح بدلًا من الاعتماد على مصدر واحد، منهم: روسيا والصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ومؤخرًا الهند، ففي عام 2020 احتلت مصر المرتبة الثانية بين الدول التي أصدرت لها الحكومة الاتحادية بألمانيا تصاريح لصادرات أسلحة ألمانية، وفي عام 2021 جاءت مصر على رأس مستوردي الأسلحة الفرنسية بقيمة 4,5 مليار يورو، وفي مارس 2023 كشف معهد ستوكهولم الدولي أن روسيا تزود مصر بكمية كبيرة من الأسلحة (2018-2022) بنسبة بلغت 9,3%.
وفي مطلع عام2023، اتخذت مصر خطوات فعلية في محاولة للخروج عن التبعية الاقتصادية أيضًا، ففي يناير من ذات العام أعلن البنك المركزي الروسي عن تحديد الأسعار الرسمية للروبل مقابل 9 عملات أجنبية أخرى من بينها الجنية المصري مما سيقلل من الاحتياج للدولار نبسيًا ( 1 جنيه مصري = 2,5 روبل روسي )، وفي فبراير انسحبت مصر من اتفاقية تجارة الحبوب الدولية التابعة في الأمم المتحدة الموقعة عليها عام 1995، وقالت وزارة الخارجية المصرية أن عضوية مصر لا تمثل قيمة مضافة، وهذا يفتح المجال أمام الخروج من معاهدات دولية أجبرت مصر على الانخراط فيها سابقًا وقد لا تمثل أي ميزة لها في الوقت الحالي، كما تستعد مصر للانضمام إلى تجمع ” بريكس” الذي يعد أهم التجمعات الاقتصادية ويضم كلًا من: روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. بيد أن في إبريل 2023، أفادت صحيفة “واشنطن بوست الأمريكية” أن الوثيقة المصنفة بأنها سرية والمؤرخة في فبراير من نفس العام تشير إلى خطط تزويد روسيا بقذائف المدفعية والبارود، وأن الرئيس المصري قد أمر بإنتاج ما يصل إلى 40 ألف صاروخ لإرسالها إلى روسيا، وفي ذات السياق صرح ” كريس مورفي” السيناتور الديمقراطي بمجلس الشيوخ: (أن مصر هي واحدة من أقدم حلفائنا في الشرق الأوسط، وإذا كان الحديث عن أن السيسي يصنع سرًا صواريخ لروسيا يمكن استخدامها في أوكرانيا صحيحًا، فنحن بحاجة إلى مراجعة جادة بشأن علاقتنا)، واعتبرت ” سارة مارجون” مديرة السياسة الخارجية الأمريكية في مؤسسة المجتمع المفتوح أن ما تم الكشف عنه في الوثيقة إذا كان صحيحًا فإنه يثير التساؤل بشأن ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة الاستمرار في الدفاع عن مصر ودعمها، وأشارت ” سابرينا سينج” المتحدثة باسم البنتاجون إلى أن وزارة العدل فتحت تحقيقًا في تسريب وثائق سرية، وكانت مصر قد أعلنت عن موقفها منذ البداية أن موقفها قائم على عدم التدخل في الأزمة الروسية-الأوكرانية، وملتزمة بالمحافظة على مسافة متساوية مع الجانبين. وفي أزمة السودان الأخيرة أكدت مصر أن ما يحدث في السودان هو شأن داخلي لاتسمح في التدخل به، و لاتزال تؤكد أمريكا على عدم تدخل أطراف خارجية في الصراع، فأحد أهداف العلاقات المصرية- الأمريكية هو التعاون بين الدولتين بشكل وثيق لتهدئة النزاعات وتعزيز السلام المستدام بما في ذلك استعادة الانتقال السياسي في السودان بقيادة مدنية من خلال الاتفاق السياسي الإطاري، وقد استطاعت الدبلوماسية المصرية حتى ذات الوقت من تفويت الفرصة على الأطراف الداعمة للأزمة حتى لا تنخرط مصر في التدخل عسكريًا في السودان؛ من أجل استرجاع الجنود المحتجزين، وتعد السودان أمن قومي لمصر وتكمن أهميتها أيضًا في كونها مساندة لها في أزمة سد النهضة، وتقسيم السودان مرة أخرى أو دخولها في حالة اللادولة، يؤزم الوضع على الحدود الجنوبية لمصر. في سياق مشترك، أعلنت الإدراة الأمريكية أنها تنسق مع الإمارات والسعودية في محاولة لإنهاء الاشتباكات، بينما أكد المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية ” سامويل وير بيرج” أن واشنطن تتواصل بشكل مستمر مع مصر ودول جوار السودان لحل الأزمة في الخرطوم، حيث تعتبر مصر أحد الضامنين للاتفاق السياسي في 2019 بين المدنيين والجيش، كما أيدت الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش” عبد الفتاح البرهان” في 2021، لكنها لم تكن جزءًا من الجهود الدولية في إطار اللجنة الرباعية التي تضم: السعودية والإمارات وأمريكا وبريطانيا؛ للوصول إلى تسوية سياسية عبر الاتفاق الإطاري الموقع في 5 ديسمبر 2022، وشددّت مصر على ضرورة توسع الاتفاق، واستضافت المخابرات المصرية مجموعة كبيرة من الأحزاب والتكتلات التي لم يشملها الاتفاق الإطاري.
وأخيرًا نستعين بتصريح ” برنارد باجوليه” مدير المخابرات الفرنسية في 2015: ( بأن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة)، فمصر ليست الدولة الوحيدة التي تحاول الخروج من العباءة الأمريكية، بل يوجد عدة محاولات من دول عربية وإفريقية ولاتينية، والسؤال المحوري يتمثل في: هل يكون لأمريكا تدخلًا سياسيًا في مصر لإثناءها عن محاولات الخروج من تبعيتها، فوفقًا لإحدى الدراسات قامت الولايات المتدة بما لا يقل عن 81 تدخلًا علنيًا وسريًا في الانتخابات بالدول الأخرى خلال الفترة ( 1946-2000)، لاسيما أن الانتخابات الرئاسية المصرية مزمع عقدها في العام القادم 2024، كما لا نغفل السجل الحافي للولايات المتحدة في التدخل في شون الدول والإطاحة بالأنظمة الغير موالية لها، ولكن إن عزمت الولايات المتحدة على إدانة الدولة المصرية على غرار حكومة صدام حسين في العراق عام 2003 – مع اختلاف الأسباب- فستكون العقوبات اقتصادية وليست عسكرية، بل قد يمتدد الحال إلى إضعاف القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط، وخلق نطاق صراع، وتشتيت الجيش ما بين 4 جهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وبالتالي لا بد من التأكيد على الدور الحيادي لمصر في كافة الأزمات الإقليمية والدولية، وحرص الإدارة المصرية على إعادة التوازن مع أمريكا بشكل يليق بمكانة مصر كدولة محورية، والعمل على دعم وتحسين وإيجاد دوائر جديدة في السياسة الخارجية مع كافة دول العالم بما يحقق مصالح الدولة المصرية والحفاظ على أمنها القومي؛ بغرض البقاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى