بريطانيا: لماذا يحكمها مسلمون وهنود؟
تدلّ ظاهرة وصول شخصيات من الأقلّيات إلى الحكم في بريطانيا على أمرين: الأول هو حالة التسامح والانفتاح التي وصلت إليها المجتمعات وتخلّيها عن العصبيّات البيضاء وانتخابها من تراه الأكفأ. فعمدة لندن المسلم تمّ انتخابه على الرغم من تعرّض المدينة لعمليات إرهابية ارتكبها مسلمون. الثاني هو تمكُّن هذه الأقلّيات الثقافية من الانخراط الكامل والاندماج المقنع داخل المجتمعات بما في ذلك تبنّي سياسيّيها لقيَم اجتماعية جديدة ما زالت مثار جدل في بلدان المنشأ والأصول.
تولّى بوريس جونسون زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة في بريطانيا من عام 2019 حتى عام 2022. قبلها، من عام 2008 إلى عام 2016، انتُخب لولايتين عمدة لمدينة لندن. وحين كان خصومه يودّون مناكفته كانوا يذكّرونه بأنّ أصوله تركيّةٌ تعود إلى جدٍّ أكبر له، اسمه علي كمال (1876-1922)، كان وزيراً للداخلية في الدولة العثمانية، وأطلقت بعض الصحافة عليه لقب “بوريس التركي”.
للندن حكاية
ولئن تسلّى البريطانيون بتركيّةِ أصول الزعيم المحافظ الذي تمكّن عام 2020 من التوصّل مع الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق مثير للجدل لخروج بريطانيا من “النادي الأوروبي”، فإنّ المخاض المعقّد والعسير الذي شهدته البلاد لانتخاب ريشي سوناك لم يشهد ضجيجاً كبيراً بشأن أن يتولّى بريطاني من أصول هندية زعامة “حزب البيض” ورئاسة حكومة البلاد مند تشرين الأول 2022. نشط الهمس واللمز والغمز، لكنّ الأمر بدا في سياقه بعدما تولّت شخصيات من أصول هندية (سويلا برافرمان) وباكستانية (ساجد جاويد) وعراقية كردية (ناظم الزهاوي) وغيرهم حقائب وزارية أساسية قبل ذلك في حكومات لندن.
وللندن حكاية أخرى. هي عاصمة “الإمبراطورية” التاريخية، ومنها قادت المملكة المتحدة إمبراطوريتها “التي لا تغيب عنها الشمس”. تنافس اليمين واليسار على إدارتها، ولا سيما منذ أن أصبحت إثر استفتاء عام 1998 “لندن الكبرى”. تولّى عمادة المدينة في وضعها الجديد عام 2000 العُمّالي كين ليفينغستون، ثمّ خلَفه، كما أسلفنا، المحافظ بوريس جونسون عام 2008. لكنّ سكان المدينة اختاروا منذ عام 2016 العُمّالي صادق خان المسلم المتحدّر من أصول باكستانية عمدة لمدينتهم.
لم يكن أمر لندن نتيجة صدفة أو ردّة فعل. أعاد اللندنيون خيارهم لقيادة عاصمة البلاد لولاية ثانية عام 2021 من دون أيّ اكتراث بعرق عمدتهم وأصوله وديانته. يُذكّر الأمر بما حدث في الولايات المتحدة حين انتخب الأميركيون عام 2008 باراك أوباما الذي كان أول رئيس من أصول إفريقية، وأعادوا الكرّة لولاية ثانية عام 2018 ليؤكّدوا تحوّلات حدثت في المجتمع الأميركي غير بعيدة عن تحوّلات في بريطانيا وعاصمتها. لكن أن تظهر وجوه حاكمة في إنكلترا من أصول تنتمي إلى الأقلّيات فهو سياق تجاوزته المفاجأة في اسكتلندا.
مفاجأة اسكتلندا
اسكتلندا بلد يتمتّع بحكم ذاتي وهو جزء من المملكة المتحدة منذ عام 1707. وللبلد حكومته ووزاراته وحياته السياسية المختلفة عن السياسة في لندن. وللبلد أيضاً حكاية خاصة ينهلها من تاريخ دموي عتيق من الصراع مع إنكلترا ويشوبه نزوع دائم إلى الاستقلال يوماً والخروج من تحت وصاية العرش الملكي. وإذا ما صدفت مشاهدة مباراة كرة قدم متلفزة بين منتخبَيْ إنكلترا وألمانيا مثلاً في حانة يرتادها اسكتلنديون، فلا عجب أنّ الجمهور هناك سيكون مشجّعاً بحماسة لفريق ألمانيا.
وفي تأمّل ذلك التاريخ الصعب بين اسكتلندا وحكومات لندن سيكون مفاجئاً أن يرأس حكومة إدنبرة منذ أيام حمزة يوسف، الذي هو سياسي من أصول معقّدة باكستانية إفريقية، ومتزوّج من سيّدة فلسطينية، وفاز بزعامة الحزب القومي الاسكتلندي الذي ما فتئ يطالب بالانفصال عن المملكة المتحدة.
وفي الأمر مزيد من الدراما بعد استقالة مفاجئة، قيل أنّها لأسباب شخصية، في شباط الماضي لزعيمة الحزب الشهيرة، حتى على المستوى الدولي، نيكولا ستورجن. لكنّ الحدث بحدّ ذاته ليس خارج أيّ سياق، فقد انتخب حزب العمّال الاسكتلندي عام 2021 أنس سروار، وهو أيضاً من أصول باكستانية، زعيماً للحزب، ويمكن أن يكون منافساً محتملاً هذه الأيام لحمزة يوسف على قيادة البلاد. فقد أظهر استطلاع للرأي في شباط الماضي تراجع شعبية الحزب القومي الاسكتلندي وتضاعف شعبية حزب العمّال.
تدلّ ظاهرة وصول شخصيات من الأقلّيات على أمرين: الأول هو حالة التسامح والانفتاح التي وصلت إليها المجتمعات وتخلّيها عن العصبيّات البيضاء وانتخابها من تراه الأكفأ. الثاني هو تمكُّن هذه الأقلّيات الثقافية من الانخراط الكامل والاندماج المقنع داخل المجتمعات
حمزة يوسف (37 عاماً) المولود لأب باكستاني وأمّ كينية انتُخب زعيماً للحزب بنسبة 52 في المئة من الأصوات. تقلّد قبل ذلك حقائب وزارية عدّة لم تقنع خصومه بكفاءاته، لكنّ الحزب اختاره زعيماً، وقيل إنّه وجده أكفأ سياسياً من منافسيه للتعامل مع حلفاء الحزب في حكومة إدنبره. تزوّج الرجل عام 2019 من ناديا النخلة المولودة في اسكتلندا لأب فلسطيني من قطاع غزّة. وبانتخابه زعيماً للحزب (الذي يملك مع حلفائه الأغلبية) أصبح تلقائياً رئيساً لوزراء اسكتلندا. يَعِدُ الرجل بأن يكون رئيساً لكلّ الاسكتلنديين. لكنّ وعوده الانتخابية الأساسية تتمحور حول الاستقلال عن المملكة المتحدة وقيام دولة ذات سيادة لا تخضع لسلطات لندن.
يسير حمزة يوسف على خطى حزبه وخطى زعيمته السابقة التي كان مقرّباً جدّاً منها. صوّتت اسكتلندا عام 2016 ضدّ البريكست ولصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وحين فاز خيار البريكست أعادت نيكولا ستورجن المطالبة باستقلال بلادها للانضمام إلى الاتحاد. لكنّ المحكمة العليا في بريطانيا رفضت في 23 تشرين الثاني 2022 دعوة ستورجن إلى إجراء استفتاء، معتبرة أنّ الحكومة الاسكتلندية لا تملك سلطة إجراء استفتاء جديد على الاستقلال من دون موافقة لندن. يتّسق حكم المحكمة مع رفض الحكومة، التي تشرف على الشؤون الدستورية للبلد بأكمله، مراراً منح إدنبره سلطة إجراء استفتاء، إذ تعتبر أنّ آخر استفتاء أُجرِي في عام 2014، عندما رفض 55 في المئة من الاسكتلنديين الاستقلال، حسَم السؤال لجيل كامل.
ظاهرة الأقلّيّات
تدلّ ظاهرة وصول شخصيات من الأقلّيات على أمرين: الأول هو حالة التسامح والانفتاح التي وصلت إليها المجتمعات وتخلّيها عن العصبيّات البيضاء وانتخابها من تراه الأكفأ. فعمدة لندن المسلم تمّ انتخابه على الرغم من تعرّض المدينة لعمليات إرهابية ارتكبها مسلمون. الثاني هو تمكُّن هذه الأقلّيات الثقافية من الانخراط الكامل والاندماج المقنع داخل المجتمعات بما في ذلك تبنّي سياسيّيها لقيَم اجتماعية جديدة ما زالت مثار جدل في بلدان المنشأ والأصول.
معركة جديدة ستُفتح بين إدنبرة ولندن في مسألة استقلال اسكتلندا. الأمر بات مقلقاً بعد فوز أغلبية في إيرلندا الشمالية، وهي جزء من المملكة المتحدة تطالب بالوحدة مع جمهورية إيرلندا، وتنامي أحجام المطالبين بالاستقلال عن المملكة المتحدة في ويلز. غير أنّ المفارقة في تبوُّؤ حمزة يوسف المنصب في اسكتلندا أنّ هذا “الباكستاني” سيناكف ذلك “الهندي” الذي يحكم لندن في شأن مفصليّ يُقلق وحدة المملكة ويهدّد بتفكّكها.