الإمارات: “الفاطميّون” يرسمون خارطة المستقبل
وضعت مراسيم رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الصادرة أخيراً بشأن ترتيب بيت الحكم في الدولة خارطة سياسية لمستقبل الإمارات وتوازنات النفوذ داخل أسرة الراحل الشيخ زايد، وتحديداً بين أبناء زوجته الشيخة فاطمة الكتبي، والدة ستّة من أقوى أبناء زايد الشيوخ محمد، حمدان، هزاع، طحنون، منصور، وعبدالله.
على بعد ستّة أسابيع من إتمام سنته الأولى رئيساً خلفاً لأخيه الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان في أيار 2022، عيّن الشيخ محمد (62 عاماً) نجله وبكره الشيخ خالد (41 عاماً) وليّاً لعهد أبوظبي، حاسماً التكهّنات بهويّة الرئيس المقبل للدولة من بعده، وأسند إلى ثلاثة من إخوانه، من أبناء الشيخة فاطمة، المناصب العليا التالية:
يجزم العارفون بالكواليس أنّ الشيخ حمدان، الذي سارع إلى توجيه المباركة إلى رئيس الدولة وبقية إخوانه وابن أخيه، بالتعيينات الجديدة، نأى بنفسه عن أيّ “جائزة ترضية”
عيّن الشيخ منصور بن زايد، الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس ديوان شؤون الرئاسة (كان يُسمّى هذا المنصب سابقاً وزير شؤون الرئاسة وتمّ تغييره أخيراً)، في منصب نائب رئيس الدولة ليكون نائب الرئيس الثاني إلى جانب الشيخ محمد بن راشد، رئيس مجلس الوزراء في الدولة وحاكم إمارة دبي.
يمكن النظر إلى تعيين الشيخ منصور نائباً لرئيس الدولة كجائزة ترضية معنوية لشخصية لم تخفِ يوماً طموحها السياسي ولصاحب إنجازات اقتصادية كبيرة وضعها في خدمة الدولة وشقيقه الشيخ محمد. كما يشكّل هذا التعيين أول حصول جزئي لأبناء زايد على حصة دبي في منظومة الحكم، حيث إنّ نيابة الرئاسة كانت معقودة حصراً لحاكم دبي بصفته رئيساً لمجلس الوزراء، لكنّ ما سهّل هذا الأمر أنّ الشيخ منصور بن زايد هو صهر حاكم دبي بالزواج من ابنته الشيخة منال وله منها ابنتان و3 أبناء.
يعطي هذا التعيين كلّ الانسيابية التي يحتاج إليها من دون إزعاج التوازنات الدقيقة، سواء بين أبناء الشيخ زايد “الفاطميين” أو بين أبوظبي ودبي التي ستظلّ تحتفظ برئاسة مجلس الوزراء بعد عمر طويل للشيخ محمد بن راشد، باني نهضتها وصانع معجزتها. كما ينطوي هذا التعيين على مسار موثوق لنقل الخبرة في شؤون الحكم والإدارة والسياسة لوريث الشيخ محمد بن راشد من دون الاضطرار إلى تغيير في معادلة الشراكة وتوزيع المناصب داخل نظام الاتحاد، وهو ما يظهر دقّة الشيخ محمد في رسم استقرار توازنات الدولة حتى وهي تنمو باتجاه مركزية أكبر لأبوظبي في القرار السياسي والاقتصادي.
من المعروف أنّ أبوظبي بسيولتها النقدية الكبيرة كانت هي منقذ دبي في أبرز أزمتين اقتصاديّتين أصابتا المدينة، لا سيما بعد الانهيار المالي الدولي عام 2008. كما أنّ الصناديق الاستثمارية لأبوظبي تعدّ مستثمراً بارزاً في أصول دبي إمّا عبر الاستحواذ على حصص كبيرة من خلال الطرح العام أو عبر الاستثمار المباشر. ويعدّ تغيير اسم “برج دبي” الذي افتتح عام 2010 إلى اسم “برج خليفة”، الرئيس الراحل لدولة الإمارات، دلالة رمزية على حجم التأثير المالي لأبوظبي على الصحّة الاقتصادية لدبي.
هذا وعيّن الشيخ محمد شقيقيه الشيخ طحنون، مستشار الأمن القومي الإماراتي القوي ورجل الأعمال الذي يدير إمبراطورية استثمارية جبّارة، والشيخ هزاع، مستشار الأمن الوطني سابقاً، نائبين لحاكم إمارة أبوظبي مكلّفين بمهمّات محدّدة يقرّرها الحاكم.
على بعد ستّة أسابيع من إتمام سنته الأولى رئيساً خلفاً لأخيه الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان في أيار 2022، عيّن الشيخ محمد (62 عاماً) نجله وبكره الشيخ خالد (41 عاماً) وليّاً لعهد أبوظبي، حاسماً التكهّنات بهويّة الرئيس المقبل للدولة من بعده
تعكس هذه الخريطة مقداراً معقولاً من الشراكة في القرار السياسي في حياة الشيخ محمد، وتحسم في الوقت نفسه سؤال الحكم مستقبلاً، فهي قرارات تقيم فصلاً واضحاً بين مستقبل الحكم في الدولة الذي حُسم لصالح الشيخ خالد وبين الشراكة في الإدارة السياسية راهناً، التي أسبغت التعيينات الأخيرة عليها صفة رسمية بعدما كانت موجودة بقوّة العرف وطبيعة تشكّل القرار السياسي في الدولة عبر نظام المشورة غير الملزمة، حيث إنّ القرار النهائي هو للشيخ محمد قولاً واحداً.
بيد أنّ الأهمّ من التعيينات السياسية هو ما سبقها بأسابيع من تعيينات اقتصادية وضعت الشيخ طحنون بن زايد رئيساً لجهاز أبوظبي للاستثمار (آديا) الذي تبلغ قيمته 790 مليار دولار، وهو صندوق الثروة السيادي الرئيسي في الدولة، والمسؤول عن استثمار ثروات الإماراتيين ومستقبلهم. وتمّ تعيين الشيخ منصور بن زايد رئيساً لشركة “مبادلة”، وهي ثاني أكبر صندوق سيادي في الإمارات، وتدير محفظة متنوّعة من الأصول والاستثمارات داخل الإمارات وخارجها، وتبلغ قيمة أصولها الحالية حوالي 284 مليار دولار.
يعكس هذان التعيينان الأخيران تحديداً، المكانة المتقدّمة للشيخين طحنون ومنصور بين بقيّة الأخوة، ويشيران إلى تثبيت موقعَيهما في حلقة القرار الاقتصادي إلى جانب مساهمتهما في القرار السياسي، على أن يكون القرار النهائي هنا كما في الشؤون السياسية في يد الشيخ محمد بن زايد.
اللافت أنّ أيّ مرسوم لم يصدر بإسناد أيّ منصب للشيخ حمدان بن زايد، وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء السابق، والثاني بعد الشيخ محمد سنّاً من “الفاطميين”، والمرشّح الطبيعي بالتالي لمنصب ولاية عهد أبوظبي لو أنّ خطّ انتقال الحكم بقي بين الأخوة ولم يتحوّل عمودياً من الشيخ محمد إلى الجيل الثالث عبر نجله خالد.
يجزم العارفون بالكواليس أنّ الشيخ حمدان، الذي سارع إلى توجيه المباركة إلى رئيس الدولة وبقية إخوانه وابن أخيه، بالتعيينات الجديدة، نأى بنفسه عن أيّ “جائزة ترضية” مصطفّاً منذ البداية إلى جانب شقيقه رئيس الدولة في قرار تمهيد نقل الحكم إلى الجيل الثالث. يُذكر أنّ نجل الشيخ حمدان، الشيخ زايد بن حمدان بن زايد متزوّج من ابنة الشيخ محمد بن زايد شما، وقد عُيّن مطلع العام رئيساً لـ “المكتب الوطني للإعلام” بدرجة وزير. كما عُيّن الشيخ شخبوط بن نهيان بن مبارك آل نهيان، وصهر الشيخ حمدان، وزير دولة للشؤون الخارجية في إفريقيا عام 2021 بعد مغادرة الوزير أنور قرقاش منصبه في الوزارة متولّياً دور المستشار السياسي للشيخ محمد.
يرسم هذا المزيج من التعيينات وجوائز الترضية والتكريمات المعنوية وضبط حدود الشراكة في القرارات السياسية والاقتصادية، مرونة لعبة الحكم في دولة الإمارات. ولا تنفصل هذه الترتيبات، بحسب العارفين، عن الدور الخفيّ للشيخة فاطمة بنت مبارك الكتبي، التي تربطها بالشيخ محمد علاقة روحانية أكثر من خاصة، ونفوذها الحاسم في إدارة شؤون الأسرة ولعبة التوازن بين الأبناء. يُذكر أنّ الشيخة فاطمة كانت قبل أسابيع في استقبال أسماء الأسد في “قصر البحر” في أبوظبي، في ظهور سياسي نادر لها. وقد لعبت دوراً مهمّاً في رفع مستوى الدعم الإماراتي لسوريا بعد كارثة الزلزال الذي ضرب في شباط الماضي كلّاً من تركيا وسوريا.