دراسة نقدية للأديبة التونسىة الأستاذة /هدى كريد .. لبعض قصائد الشاعر/ أيمن الفالوجي
.»»»««««««««مواجيد
بتوقيت القلب ،في غفلة من الضغائن كهاتف غيب يتناهى إلينا صوت عاشق تشرّب العشق حتّى ثمل ، واستهلم كلّ قصص العشاق حتّى شفّت الرّؤيا .رئيّ ينطق حروفا تقطر وجدا ويقف على صخرة سيزيف وحيدا وقد قاتله الشّكّ وخذله اليقين مندحرا على تخوم واقع يزهق أرواح المحبين بخرق متوارث.والشاعر يعيش وسواسا لا فكاك منه ،منذ طوّحت الرّوح بعيدا عن الجسد واستقرّت داخل عالم المثل ” تهيم بقلب السّماء مادامت البلاد معبّأة بالتّفاصيل القاتلة .
لذا لا يتقوقع السّالك الّا داخل أناه المترامية على أطراف الأرض ،يسير متوحّدا بالصّبابة والكآبة في قبضة السّؤال “أين العشقفي هذا المساء؟ إنّه التّطهّر من أدران الحياة وشوائبها لننغمس في أجواء روحية ،رحلة متصوّف تختزل الحياة في كنه شفيف، هو الجوهر وماعداه عرض خاصّة ضجيج العالم وفوضاه والشّوائب العالقة بالبشر .ملحمة الحرف والعشق تخرج عن إسار الصّمت والغياب والخذلان ،تضرم حرائقها وحرائقنا ،كلّما حملتها الخطى إلى أدران الحياة ، يقول الصبّ وهو يقرع كؤوس الخمر من قبل أن يخلق الكرم ويشرب على نخب الحبيب مدامة
اشتياق
اشتياقي لعشقٍ
من زمن بعيد..
لا يصل إليه موج،
يعكر صفوهعشق لا يعرف الغموض
لا تحجبه غيوم الحرمان
يولد كل يوم مع وهج الصبححين
يلامس رحم البحرلا يغيب أبدا…
أراه بروحي
عنان السماء
هكذا يسير على قارعة التّيه عابرا تقتله منظومة الأحزان، يتأرجح بين القوافي ويفرد جناحيه على نافذة الشّوق وبين لحظتين يعانق رشفة حبّ .وحين يشرع قلبه للفجر حيث ينثر الأزاهير يترك يده قابضة على الجمر .يبذر حرفه فيلقى أناه نحن على التّماس بين شعر رومانسي حالم وبين شعر رمزي ذهنيّ ،وفي كلّ معاريج الصّور الشّعرية الى الهناك هربا من الهنا .ويضجّ المعجم بكآبة المساء ومايختزنه من جمال وأسى في ذات الوقت .
وهاهو يتلو علينا سفر روحه
(هَوَاجِسُ الْعِشْق )
»»»»»»»»»»««
حيِنَ يأتي المساءُ
تدورُ هواجِسُ
العشقِ فى خفاء
كيفَ أبُوحُ منفرداً
ويُحيِطُ بي
عَالَمُ الفضاء
سُكونٌ ..
يُخاطبُهُ الجُنُون
و تُتبعهُ الظُنُون
أشعرُ أنَّ حُبّك بلاء
مغلفٌ بالشقاء
عيونٌ دافئةٌ لن تخونْ
استقرَّ الجسدُ كى يستريح
فى عالمٍ فسيحٍ
تهيمُ الروحُ في
قلبِِ السماء
أيتها الروح!
تعالِي
لا تُبالِي
فَغِيَابُهَا المُعتَاد
بَليةٌ بلْ بَلاء
لمْ يستجبْ
لجمالِ الأبجديةِ
لمْلِمْ ما تبقى من
حَنينكَ هذا المساءْ
يأتي مساءٌ
ويرحل مساءْ
وأنتظرُ بزوغَ الفجرِ
علَّني أراها
كالندى
تستلقي على وردةِ ياسمين
علَّها تُشرِقُ كشمسِ
العمرِ
من ذاكَ الفناء
وتتذكرُ ذاك الحبيب
الذي أرهقهُ الإنتظار
ما أطهرَ الندى
قدْ أوفى
بعَهْدَهِ
منحَ الوردَ عشقاً
أبدياً
وروحي ماتزالُ
بانتظارِ اللقاء…
لقد ابتنت هذه النّثيرة عوالمها عبر المتعاليات النصيّة كما اهتدى إلى ذلك جيرار جينيت الذي جعل من التناص وجها لما سماه بالمتعاليات النصية transtextualité وتعني كلّ ما يجعل نصاً يتعالق مع نصوص أخرى، بطريقة مباشرة أو ضمنية. فالمساء علامة لغوية تختزن الكثير من خطى العابرين كخليل مطران او نزار قباني أو محمود درويش الذي يقول “هي في المَساءِ وحيدةٌ، وأنا وَحيدٌ مِثلها بَيني وبَين شُموعِها في المَطعمِ الشَّتويِّ طاولتان فارغتان… ” ويقتضي الولوج السيمولوجي منّا النّظر الى مستويين من العلامة
اوّلا معانيها المتداولة عند القرّاء
ثانيا ما يصطنعه الشاعر لها من مدلولات .وفي هذا السّياق يزدحم الشّتات في الكلمة ويتناسل فيها ليكون التّرديد أجراس الفجيعة الذاتية والجماعيّة .فالذّات تلوذ بتغريبتها الى سماء أخرى وتتفيّأ ظلالها وهنا يحمل المساء مدلولاته الخاصّة ويشكلّ الايقاع البصري منه لغته أيضا مدّا وجزرا يتماهيان مع رحلة الوجود نصرا وقهرا.
بين دفّتي مساء تحاصرنا الاسئلة وتورّطنا “اين اللّقاء ؟”بلاغة الاستفهام في التّحسّر إذ يتجاوز السّؤال مقصد الاستخبار كما ينفلت المكان من عقال الحسّي الى التّجريد،كي يعلن ماساة الغياب ،تغيب الحبيبة ويغيب الوطن والمعنى على حدّ سواء . ولعلّ قيمة قصائد الفالوجي تكمن في اكتنازها بالمعنى معوّلة على البساطة واقتناصها العادي لتحوّله الى عمل فنٍّي يقوم على الرّمز بغير ألاعيب اللّغة المبالغ فيها او الزّخارف التي تكون مجرّد حلية لغوية .
انّما الشّعر وحي مقدّس و هزّة مفاجئة تأتي دوما بلا موعد وتعادلية الابلاغ والبلاغة .من هنا ترتسم الصّور وتخلق طاقاتها التعبيرية ما بين التّصريح والايماء كي تتشّكل ملامح العشق ،رفيق تائه في إلغاز الوجود وعبثيّته ، في الكون الشّعري يحترق الشوق جرّاء غواية النّار ورجع الحنين والانين. صولات المداد في التّشخيص يقتنص ضحكة وقبلة آبقة من الشّفاه ويبتني عوالم نقيّة للذات وهي رهينة محابسها الهجر والوجع واللاّمعنى .زيف لا يواريه افتتنان بايّ حسن وفي أنظمة الصّورة الشّعرية يؤنسنالصّبر آخر أسلحة الذّات التّى تعشق الوطن بهمومه ،هي المسيح المصلوب والوطن الجلجلة .
الا انّ الرّمز حاضر بالقوّة لا بالفعل، العنقاء تنبعث من رمادها وعشتار تضخّ جرارها في انتظار ميسم جديد ،علاوة على المسيح يتوجع توجّعا رتيبا، ارض الخراب والضياع والمأساة ،ذاك هو الوطن والعالم معا داخل النّصوص المفتوحة على أكثر من معنى .ولكنّها لا توالي الاّ التطرّف في الحبّ ،تكره الدّجل والظلمة التي تمثّل رمزا معاديا ينخرط فيه الكائن الفاسد والضّوابط القامعة،دجل المجتمع والقافية ،كلّ مصادرة لحقّ العشق والشعر مرفوضة ،شهوة اللّا محدود تنفلت عن كلّ إسار كتب الفالوجي بالذّات ،بجراحاتها واهازيجها ،ويموت سؤاله كي يحيا على شفاهنا، نرّدّد معه صلاته في محراب العشق منشقين مثله عن كلّ قبح. نمضي شئنا ام أبينا في قافلة العاشقين .