ستيفن سودربرغ الهوليوودي يعود إلى البطل الإشكالي في وحدته المطلقة
قبل رحيله بسنوات، وخلال لقاء له مع الصحافيين في القاهرة، أبدى النجم المصري العالمي عمر الشريف ندمه واعتذاره عن لعبه في الماضي دور “تشي” في ذلك الفيلم الأميركي القديم الرديء الذي شوّه صورة “البطل الأممي”.
وفي المقابل، من المؤكد أن بينسيو ديل تورو، ومهما مضت السنون، لن يعتذر أبداً عن أدائه الدور نفسه في فيلم من جزأين حققه “الهوليوودي” سودربرغ عن تلك الشخحصية نفسها بعد الفيلم الأول بثلث قرن، وتحديداً عام 2008. وليس هذا فقط لأن الدور أعطى ديل تورو جائزة أفضل ممثل في دورة ذلك العام لمهرجان “كان”، بل لأنه كما حال سودربرغ، يعتبر أن ثمة تماهياً حقيقياً بين فكر غيفارا وفكره. ومن هنا لم يكن غريباً أن يحمل ديل تورو المشروع في قلبه وأفكاره ما يزيد على 10 سنوات، وحتى قبل أن يدخل سودربرغ على الخط. فالفيلم، في نهاية الأمر، فيلم لديل تورو والدور دور حياته.
في عالم السينما الملحمية
ومع هذا، سيقول لنا تأمل في الأداء الفني الإخراجي لسودربرغ في كل واحد من الجزأين أن لمسات هذا الأخير كمخرج أكثر من واضحة فيهما، انطلاقاً من الاستخدام المتوتر والحر للكاميرا، وصولاً إلى إدارة الممثلين، مروراً بالتوليف المنطلق والنزعة الملحمية في عمل ما كان يمكنه في نهاية الأمر إلا أن يكون ملحمياً.
وإذ نقول ملحمياً، فإننا نعني الكلمة بحذافيرها، ذلك أن مجموع الفيلمين اللذين تزيد مدة عرضهما معاً على أربع ساعات وثلث ساعة، يشكل عملاً متكاملاً يتعمق في دراسة الحدث التاريخي ودور الفرد فيه، ولعبة المصير والمجازفة، في شكل ذكر كثراً بـ”لورانس العرب” الذي يعتبر واحداً من أعظم الأفلام الملحمية التي تتحدث عن الفرد في زحمة التاريخ. والحقيقة أن سودربرغ لم يكن لديه خيار في هذا. ففيلم يحكي تاريخ ثورتين، إحداهما نجحت، والثانية أخفقت، ودور غيفارا في الثورتين، ويسرد تدخلات الدول الكبرى بالتوازي مع اختيارات فرد كغيفارا أمن بالثورة الدائمة، ما كان يمكنه أن يكون فيلماً عادياً يحكي حكايته ببساطة.
ولعل هذا الحيز الزمني، معطوفاً على الحيز الجغرافي، ما جعل سودربرغ يبدل مشروعه، إذ بعد أن كان عبارة عن فيلم طويل قد تزيد مدة عرضه عن ساعتين، صار فيلمين. ومن الواضح أن هذا التقسيم هو الذي مكن المخرج، والعاملين معه في الفيلم، من التوقف باستفاضة نسبية عند حدثين كبيرين أساسيين من الأحداث التي شهدها تاريخ غيفارا.
انتقاد من الداخل
الحدث الأول (وهو موضوع الجزء المعنون “الأرجنتين”) هو الثورة الكوبية، التي تروى لنا هنا، من وجهة نظر غيفارا إلى حد كبير، ما يضعنا هنا في خضم تلك الثورة التي تروى لنا أحداثها، وكيف بدأت نواة تحرك بسيط من حول محام شاب هو فيديل كاسترو، أخفق ورفاقه في محاولة أولى فسجن، ليطلق لاحقاً ويواصل الثورة، وقد صار الطبيب الأرجنتيني الشاب إرنستو غيفارا رفيقاً له فيها.
انطلاقاً من هذا الشكل، قدمت لنا الثورة الكوبية، عبر مشاهد ترجع إلى الماضي وعبر نتف وأحداث متفرقة، يظل غيفارا، الزاحف من مدينة إلى مدينة “حتى الانتصار النهائي”، بطلاً لها، تطارده في طريقه الثوري امرأة مشاكسة سرعان ما ستصبح زوجته وأم أبنائه.
هنا في هذا الجزء بدأ أسلوب سودربرغ، في السيناريو والإخراج متشظياً، مناصراً للثورة، إنما منتقداً لها في بعض الأحيان، ولكن انتقاد الداخل لا انتقاد الخارج. وبمقدار ما أبدع سودربرغ هنا في إدارة المجاميع، بمقدار ما تسلل أيضاً إلى داخل سيكولوجية بطله، مع التفاتة أساسية إلى علاقته، التي راحت تغمض بعض الشيء، مع كاسترو. ولئن كان الفيلم انتهى بـ”اختفاء” غيفارا من الناحية الحدثية، وإعلان كاسترو أن رفيقه وصديقه اختار التخلي عن مناصبه السياسية في الحكم الكوبي، لاختراق آفاق ثورات جديدة في مناطق أخرى من العالم، فإن الإطار العام ظل خطابه في الأمم المتحدة، وكذلك حديثاً صحافياً، بالإنجليزية، على عكس الفيلم الناطق كله بالإسبانية، كما حال جزئه الثاني – أدلى به غيفارا واعتبر، في ذلك الحين منعطفاً ليس فقط في فكره وممارساته السياسية، بل حتى في الممارسة الثورية.
ما بعد حداثة ما
حمل الجزء الثاني من الفيلم حمل عنوان “حرب العصابات”، وانطلق من تنكر غيفارا وسفره إلى بوليفيا، كي يساهم هناك في اندلاع ثورة يسارية جديدة. هنا في هذا الجزء، أضحى أسلوب سودربرغ في الفيلم أكثر كلاسيكياً، ولكن أيضاً أكثر ملحمية. هنا لم يعد ثمة رجوع إلى الوراء، ولا تشظٍّ في رسم خريطة الأحداث. ومن الواضح أن هذا كله جاء مقصوداً بقوة، لأننا في الواقع إذا كنا، منذ أكثر من 50 سنة نعرف تماماً ما حدث خلال الثورة الكوبية ودور غيفارا فيها ما جعل المخرج متحرراً من ضرورة الالتزام بحرفية السرد التاريخي، قادراً على خوض ألعاب في السيناريو تمتعت بدرجة عليا من أسلوب ما بعد الحداثة في الجزء الأول، فإننا في الجزء الثاني بتنا مدعوين إلى التنبه بقوة، لأن سودربرغ شاء هنا أن يساجل وأن يكشف خبايا وألغازاً، أحاطت بكل تلك الفترة الأخيرة من حياة غيفارا ونضاله.
ومنها تقاعس الحزب الشيوعي البوليفي، المؤيد كلياً لموسكو كما حال كل الأحزاب الشيوعية الستالينية في العالم، عن مساندة غيفارا وثورته الشعبية، بل تواطؤ هذا الحزب مع السلطات الأمنية البوليفية ضده، كما مع بعض مع عملاء الـ”سي آي أي” ضد الثائر الذي أراد لأميركا اللاتينية أن تنهض، عبر بؤر ثورية، ضد الديكتاتوريات المحلية وضد الهيمنة الأميركية.
البطل في وحدته المطلقة
في هذا القسم من الفيلم، أراد المخرج إدخالنا السياسة، بعد أن كان في القسم الأول أدخلنا التاريخ، بل أكثر من هذا: شاء أن يدخلنا في لعبة تكاد تكون دينية، إذ بات من الواضح خلال الساعة الأخيرة من “حرب العصابات” أننا لم نعد أمام ثائر يقاوم، بقدر ما نحن أمام زعيم روحي ورفاقه، يتلقون الطعنات والخيانات من دون أن يكون قد بقي لهم أي أمل بأي انتصار. ويقيناً أن سودربرغ وصل في هذه الساعة الأخيرة إلى ذروة تعبيره عن الوحدة المطلقة لبطله، إذ لم يعد من حوله سوى حفنة من رفاق مخلصين، يتساءلون، حتى هم، ما الذي يفعلونه هنا، ليس فقط ضد الاستخبارات الأميركية أو السلطات القمعية المحلية أو الأحزاب الشيوعية الغادرة… بل حتى ضد الشعب المحلي نفسه الذي ينظر إليهم كغرباء ولا يريدهم أن يبقوا هنا، فكيف أن يثوروا ويحاربوا!
وحدة البطل هذه، هي ذروة ما قدمه سودربرغ في هذا الفيلم القوي والكبير، ساعده على ذلك أداء بنيسيو ديل تورو الذي تقمص الشخصية وأحزانها ووحدتها في شكل مدهش. ولعل هذه الساعة الأخيرة من الفيلم هي ما سيبقى بعد زمن طويل، من عمل ملحمي يتسم بقدر كبير من النزاهة.
انتقائية مجدية
كل هذا كي نقول إلى أي مدى يعتبر ستيفن سودربرغ انتقائياً في عمله السينمائي الذي جعل منه طوال العقود الثلاثة الأخيرة واحداً من أنجح السينمائيين الهوليووديين ومكّنه من أن يحقق معادلة مهنية لا بأس بها: معادلة تقوم على توزيع وقته ومساره المهني بين أعمال جماهيرية مرتفعة الموازنة وأعمال شديدة الخصوصية وأخرى بين بين، إذ مرات نجد سودربرغ مخرجاً – مؤلفاً، تلوح من خلال أفلامه نكهة ثقافية تظهره مثل سيد من سادة السينما المستقلة (“كافكا”، “ملك التلال”، وحتى “تهريب” و”جنس أكاذيب وفيديو”)، ومرات تجده يخوض السينما الشعبية، بل الاستعراضية التي بالكاد يبدو اسم المخرج وعمله من خلالها (“ارين بروكوفتش” وسلسلة “أوشن”…).
أما فيلمه “تشي”، في قسميه “الأرجنتين” و”حرب العصابات”، فإنه في المسار المهني لهذا المخرج المقترب من سن الستين ببطء، يقف على حدة. وربما يكون هذا، قبل كل شيء، لأن “تشي” ليس فيلماً هوليوودياً تماماً، ولا حتى في استعراضيته الضخمة، فهو أصلاً فيلم صور وأنتج في إسبانيا وناطق بالإسبانية، ويدور من حول موضوع يقف، سياسياً، على الضد من معظم الفكر الهوليوودي السائد، بل إنه يحاول في شكل ما، إعادة الاعتبار لبطل سبق لهوليوود أن حاولت تهشيم ذكراه مرات ومرات.