رحيل اليساري الإسلامي حسن حنفي يشعل خطاب التجديد والتجميد
اختار أستاذ الفلسفة ورائد “الاستغراب” ومفكر اليسار الإسلامي ومؤلف “من الفناء إلى البقاء” أن يبقى اسمه مقترناً بأقصى درجات الشجب والتنديد، وكذلك أقصى أنواع التبجيل والتأييد طيلة حياته وعند مماته.
أستاذ الفلسفة الذي رأى حتمية التنظير في المجتمع الأكاديمي تحريكاً للعقول وإنعاشاً للأدمغة، ولزوم السجال والنقاش في دوائر الفلاسفة والتطهير والتنقيح في العقل الجمعي رحل عن عالمنا تاركاً وراءه القدر نفسه من الجدل والسجال والخلاف والاختلاف الذي فجره طيلة مسيرته الفكرية بالغة الثراء.
طيب الله ثراه
“طيب الله ثراه” مصحوبة بعلامات تعجب واستفهام كتبها أحدهم تعليقاً على “تغريدة” تنعي رحيل حسن حنفي أحد أبرز مفكري تيار “اليسار الإسلامي” المنقرض ومدرسة “الاستغراب” المندثرة وواحد من قلائل في العصر العربي والإسلامي ممن حاربوا وحوربوا ليشيد ويؤسس مشروعاً فكرياً عربياً في زمن يكاد يكون منزوع الفكر.
ولأن فكر حنفي، الذي وافته المنية عن عمر 86 عاماً، لم يمتثل للفكر السائد أو يكتفي بالنقل الدارج أو حتى يبني على تراث آمن، فقد اعتبر من قبل المؤسسات الدينية والقواعد الشعبية خارجاً عن السرب وأحياناً عن الملة. ولأنه آمن منذ عقود بضرورة إعادة النظر فيما تحول من تراث موروث إلى عقيدة غير قابلة للمساس، فقد وجد نفسه حائراً بين لقبي “رائد التنوير وقائد التجديد” و”الملحد الزنديق المعادي للدين”.
التساؤل المستنكر لعبارة “طيب الله ثراه” المذيلة لنعي حنفي على “تويتر” نقطة في بحر هائج تسبب فيه مشروعه الفكري الذي يمكن وصفه بأنه “ضد التيار”. فحنفي آمن منذ عقود بحتمية البحث في أغوار التراث، لا لمعاودة اعتناقه بل لفك التباساته. يقول في كتابه الشهير “التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم”، “مهمة التراث والتجديد حل طلاسم الماضي مرة واحدة إلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور. مهمته التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي والموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطان إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة”.
إعمال العقل
الكلمات التي رسخت لحنفي مكانة بارزة وأهمية ثاقبة في عالم الفكر والتجديد ومنصة إعمال العقل والتنديد بالنقل الأعمى هي ذاتها التي رسخت له صدارة في عالم التكفير والتنديد وصب اللعنات والمطالبة بضرورة العودة إلى صفوف السمع والطاعة وقول “آمين” من دون تفكير.
وبين التفكير والتكفير، عاش المفكر الراحل عقوداً صاخبة. ومنذ رحيله، أمس، غاص سكان السوشيال ميديا في بحور هائجة من المضي قدماً؛ إما في صب اللعنات على الرجل الذي وهب حياته لإعمال العقل أو في تأبينه والبكاء على أطلال قليلة باقية من شيء من العقل.
أمس البعيد، وتحديداً في صيف عام 2009، صبت “جبهة علماء الأزهر” غضبها على حنفي ومؤلفاته التي وصفتها بـ”كتب الملاحدة”؛ لأنه أشاد ودافع عن جائزة حصل عليها المفكر والكاتب الإسلامي المثير للجدل والملقب بـ”العلماني” (على أساس أنها سبة) سيد القمني. يومها أصدرت الجبهة بياناً شديد اللهجة حامي النبرة تساءلت فيه غاضبة “هل وراء هذا الاستحضار لحسن حنفي الذي كفر بعد إسلام تمهيد لتكرار الجريمة معه بمنحه مثل ما منح شقيقه سيد القمني في الكفر والغواية من وزارة الثقافة؟!” وذيلت الجبهة بيانها بدعاء، “اللهم اشدد وطأتك على هؤلاء الملاحدة الذين غرهم حلمك فخرجوا على الأمة بقضهم وقضيضهم يحادونك ويكذبون رسولك ويسخرون من شرعك وورثة نبيك، صلى الله عليه وسلم، أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين”.
مصادرة ونفي
قوم آخرون، ولكن في الجبهة ذاتها مالوا إلى مصادرة أحد كتب حنفي في عام 2013، بسبب ما وصفوه بـ”تضمنه إساءة للذات الإلهية”. القرار الذي تم اتخاذه في اجتماع رأسه شيخ الأزهر أحمد الطيب تم نفيه بعدها بقليل، ولكن بعدما كان “مصدر مطلع” قد أدلى بتصريحات صحافية مفادها أن الكتاب تضمن العديد من العبارات التي تسيء للذات الإلهية وتتنافى مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية ما يعني ضرورة مصادرته.
وتعددت مصادر توجيه سهام التكفير والاتهام بالإلحاد والمطالبة بالتوقيف على مدار عقود طويلة من عمر حنفي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، طالب أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء أيضاً أحمد كريمة في عام 2016 بـ”تطبيق حد الردة على الملحدين الذين يشككون في أصول الإسلام”، مشيراً في إطار تعليقه على مقال نشر لحنفي عنوانه “هل غاب العقل النقدي من فكرنا الإسلامي؟” إلى أن “القرآن الكريم كتاب مقدس وليس سرداً تاريخياً”، ومذيلاً التعليق الناري باستغاثة للأزهر الشريف “من لكتاب الله يا أزهرنا”.
“أزهرنا” ناعياً
“أزهرنا” سارع إلى نعي حسن حنفي عقب رحيله. كتب الإمام أحمد الطيب “الراحل الذي قضى عمره في محراب الفكر والفلسفة، وزخرت المكتبات العربية والعالمية بمؤلفاته وتحقيقاته”. يشار إلى أن شيخ الأزهر له مؤلف عنوانه “التراث والتجديد: مناقشات وردود”، يرجح البعض أن يكون موجهاً خصيصاً للرد على ودحض أفكار وكتابات حنفي في شأن التراث. وقد أضاف أحمد الطيب في نعيه للأخير أنه يذكر له “مطالبته الغرب والمستشرقين بإنصاف الشرق والحضارة الشرقية والقيم الإنسانية النبيلة”. نعي نبيل آخر جاء من دار الإفتاء، إذ قال مفتي مصر شوقي علام “الراحل كانت له جهود عظيمة في إثراء الثقافة والفكر والمكتبات، ليس في عالمنا العربي فحسب، بل في العالم الغربي كذلك”.
نعي المؤسسات الدينية الرسمية للفيلسوف الراحل بطريقة رسمية مفهوم لدواع رسمية. أما رواد ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي ففي حل من هذه القواعد. ولذلك تحفل المنصات بكم هائل من الشد والجذب، والتأبين والتنديد، والحزن والفرحة، والتعبير عن القلق لرحيل أبرز رواد دعاة التجديد والتطهير، وإشهار الشماتة في رحيل من طالب بتجديد ما هو غير قابل لذلك وتطهير ما هو شبه مقدس.
اتهامات الزندقة
مواقع إلكترونية عدة تحمل أسماء تتراوح بين الدفاع عن السنة وأهلها ورفع راية الدين والمتدينين أوشكت على إقامة الأفراح والاحتفال بالرحيل. “رحل الزنديق الملحد المتطاول على الذات الإلهية”، “نفق الماركسي العلماني لينتصر الدين رغم أنف الكارهين” وغيرها من الإشهارات تتسبب في جدل صاخب وإن كان محدوداً.
صاخب لأن الموضوع زاعق، ومحدود لأن القاعدة العريضة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي لم تسمع أصلاً عن المفكر الراحل! بالطبع دشنت الجيوش الإلكترونية المعتادة الدق على أوتار و”كي بورد” شاشاتها لمجرد سماع أن أحدهم “تطاول على الدين” لتدرأ الخطر الداهم وتذود عن الإسلام والمسلمين. وكان ما كتبه أحد المواقع من أن “خطر أفكار حسن حنفي وتطاولاته على الإسلام والمسلمين كان أكبر من الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة” ليدخل الآلاف منددين مرة بـ”حسين يوسف” وأخرى بـ”هذا الذي لم يسمع عنه أحد”.
تأبين وتطرف
في المقابل، تتوالى رثاءات وتأبينات للرجل الذي رأى أهمية تجديد الخطاب الديني وتطهير التراث قبل أن تتفاقم آثار التشدد وتنفجر روافد التطرف قبل تفاقمها بعقود وانفجارها بسنوات. والمفارقة أن الانفجار يتمثل في ما يكتبه البعض عن حنفي على شاكلة؛ “وأخيراً وبعد طول انتظار رحل مؤسس المدرسة المزرية التي أفرزت كل الملحدين العرب”، و”رحل الماركسي الإلحادي الذي سار على درب القطيعة المعرفية مع ثوابت الإسلام وأصوله وبقي الإسلام وأصوله. لا رحمه الله ولا أحسن إليه” وغيرها كثير.
لكن غيرها كثير أيضاً يأتي في صورة تأبينات تتوالى في حق رائد فكرة التجديد الديني والتفسير الموضوعي للقرآن الكريم ومواجهة التغريب في العالم الإسلامي والربط بين العلمانية والتاريخ العربي وليس الغربي بالضرورة. أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد يقول، “برحيل حسن حنفي تكون شعلة أخرى من شعلات الاستنارة والانفتاح على ثقافات العالم قد انطفأت”. يضيف: “رحل الساعي إلى اكتشاف مبحث الإنسان في الفلسفة الإسلامية والمجتهد في الدعوة إلى يسار إسلامي الذي لا يكل في الدعوة إلى فهم صحيح للدين يعانق العلم والعدالة الاجتماعية ويتحاور مع ثقافات العالم مع الاحتفاظ بموقف ناقد لها”. وختم تأبينه بالقول، “حياتنا الفكرية ظلماء، وهانحن نفتقد بدراً كان يضيء بعض جنباتها”. جنبات المفكر والمجدد والفيلسوف والأكاديمي حسن حنفي تبدو واضحة بعد رحيله حيث ما زال توصيفه متأرجحاً بين الإسلامي والماركسي والمتنور والملحد والمجدد والهادم والعلماني واليساري الإسلامي. والأهم من كل ما سبق “من رأي أهمية التجديد قبل حتميته بعقود”.