عاجل

د/ مصطفى الفقى .. يكتب / .. السودان… إلى أين؟

يقف في مفترق الطرق والاختيار الوطني سيكون الأقوى لدى قادته وزعمائه من كافة الطوائف والاتجاهات

تؤرقني أحوال السودان منذ عدة عقود، فذلك الشعب الأبي المثقف والمسيس في ذات الوقت مطالب دائماً بأن يدفع فاتورة غالية من أمنه واستقراره، إنه شعب 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 يوم التمرد المدني الذي أطاح فيه الشعب السوداني حاكمه حينذاك إبراهيم عبود، وهو نفس الشعب الذي أطاح نميري بعد ذلك بأكثر من عقدين بمظاهرات النقابات وجمعيات الخريجين، فالشعب السوداني يتميز بأنه يقظ يدرك ما يدور حوله ويفهم المسارات التي يتحرك فيها، وإذا كانت لديهم الأحزاب ذات الطابع التاريخي والديني مثل الختمية والأنصار أو دعاة بيت المرغني وعائلة المهدي، فإن تلك الكيانات التي استمرت نشطة لقرابة قرن كامل لم يعد لها نفس القبول الشعبي الذي كانت تحظى به من قبل، والحديث عن السودان ذو شجون لأنه يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة عدد من القضايا المتصلة بالسودان وجيرانه يمكن أن نوجزها في المراحل التالية:

د مصطفى الفقى

أولاً: عندما قامت ثورة يوليو (تموز) 1952 في مصر وجرت إطاحة العرش العلوي وطرد فاروق ملك مصر والسودان كنا أمام مفترق طرق، حتى أنني أشعر أحياناً أن صراع السلطة ما بين عامي 1953 وعام 1955 بين محمد نجيب وعبد الناصر قد أحدث قلقاً في العقل السوداني وصنع مخاوف دعت السياسيين السودانيين إلى المطالبة بالاستقلال الكامل حتى أن إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الاتحادي الذي كان نصيراً لوحدة وادي النيل نكص على عقبيه ودعم في الاستفتاء الشعبي مشروع السودان المستقل الذي أعلنت دولته في أول يناير (كانون الثاني) 1956، في وقت اتجهت فيه مصر الناصرية نحو المشرق العربي خصوصاً دول الشام الكبير عندما كرس عبد الناصر كل اهتمامه في مواجهة حادة مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية حيث استغرقت سياسات إسرائيل العدوانية الجزء الأكبر من وقته واهتمامه وتراجعت قضية السودان في السياسة المصرية إلى المرتبة الثانية، ولم يعد لها ذلك التأثير الضخم الذي وصل بسياسي كبير يوماً ما في العصر الملكي لأن يقول “تقطع يدي ولا أفرط في السودان”.

 لقد ظلت الوشائج التاريخية بين البلدين راسخة وتجلت في مناسبات مختلفة فيما بعد أهمها دعم السودان لمصر سياسياً بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، كما أن وصول جعفر نميري إلى الحكم في الخرطوم كرس العلاقات المصرية – السودانية لكي تصبح أكثر قرباً وتستعيد قدراً من زخمها خصوصاً بعد الانفصال بين مصر وسوريا وسقوط دولة الوحدة إذ بدأ كثيرون في الشمال والجنوب يتحدثون مرة أخرى عن وحدة وادي النيل وأهميتها للشعبين المصري والسوداني.

ثانياً: إن الشعب السوداني ينفرد بخصائص منها استقلالية التفكير والفصل الكامل بين الجانبين الشخصي والموضوعي في المواقف السياسية والقرارات المصيرية، وما زلت أتذكر، بعد لجوء الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري لمصر التي استضافته في أحد قصور الرئاسة بمصر الجديدة، كيف كان الرئيس الراحل مبارك يوفدني إلى الرئيس نميري الذي كان لاجئاً سياسياً حينذاك لكي أكون همزة وصل بينهما، وفي ذلك الوقت لفت نظري أنني كلما ذهبت إلى نميري وجدت في ضيافته السفير السوداني بالقاهرة والمستشار الإعلامي للسفارة وعدداً من أصدقائه السودانيين الذين كانوا لا يزالون في الحكم تحت قيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي نعتبره حالة فريدة بين الحكام، حيث كان زاهداً في السلطة وتخلى عنها طواعية في محاولة لفتح أبواب الديمقراطية أمام شعبه الأصيل، وقد كنت أعود من زيارتي لنميري في مقره بالقاهرة معبراً عن دهشتي للرئيس مبارك مما رأيت في وقت كان فيه السودان يطالب بتسلم نميري لمحاكمته حتى أن المدعي العام السوداني زار القاهرة لهذا السبب في محاولة لاستعادة نميري للمثول أمام قضاء بلاده، ولكن مصر رفضت باعتباره طالب لجوء سياسي إلى وطنه الثاني مصر، وقد شرح لي الرئيس مبارك أن ما رأيته في منزل نميري بالقاهرة هو أمر طبيعي لدى ذلك الشعب الذي يعرف كيف يفرق تماماً بين العلاقات الإنسانية والمواقف السياسية.

ثالثاً: عندما قامت ثورة الإنقاذ في الخرطوم عام 1989 تصور نميري أنها داعمة له كما قال لي يومها، وتوهم الرئيس مبارك أيضاً أن الذي قام بها ضباط سودانيون يتجهون إلى تحسين العلاقات مع مصر، وهو ما لم يكن توصيفاً صحيحاً للواقع، حتى أن أستاذي بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية حينذاك اتصل بي أكثر من مرة لتأكيد إبلاغ الرئيس مبارك بأن الذين قاموا بالثورة ليسوا من أنصار العلاقات الطيبة مع مصر، بل قد يكون العكس صحيحاً. وأضاف لي يومها أنهم مزيج من ممثلي التيار الإسلامي بل وبعض البعثيين من ضباط الجيش لذلك فإنه يجب الحذر في التعامل معهم، ولكن الرئيس مبارك لم يكن مستعداً حينها لتقبل هذا التفسير وكان داعماً بشدة لثورة الإنقاذ حتى أنه طلب من بعض ناقلات البترول الموجودة في عرض البحر ومملوكة لبعض دول الخليج التوجه إلى ميناء بورسودان لتلبية احتياجات النظام الجديد من المحروقات، وبعد ذلك كشفت الأحداث عن واقع مختلف، حيث أثبتت رؤية بطرس غالي صحتها وأنها الأقرب إلى واقع الحال في تلك الأيام، ولم يمض عام أو بعض عام إلا وأظهر البشير وجهه الحقيقي المعادي في أعماقه للدولة المصرية، والذي لا يؤمن إطلاقاً بالشعارات التاريخية التي تتحدث عن وحدة وادي النيل وتربط بين الدولتين التوأم مصر والسودان، وقد ظهر الخلاف جلياً بعد غزو العراق للكويت حيث اتخذ السودان موقفاً مختلفاً بشدة مع مصر في القمة العربية بالقاهرة التي انعقدت في العاشر من أغسطس (آب) بعد أسبوع من الغزو العراقي للكويت، ووصل الخلاف بين الدولتين إلى ذروته بعد ذلك حين تقدم السودان بشكوى إلى مجلس الأمن بسبب الخلاف الحدودي في منطقة “حلايب وشلاتين”، وهو نزاع حدودي مزمن بين البلدين الشقيقين وعندما تتحسن العلاقات (نكون حبايب) وعندما تسوء تطفو (أزمة حلايب)!

رابعاً: حينما جرت محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا عام 1995 تدهورت العلاقات بشدة بين مصر والسودان حيث أشارت أصابع الاتهام إلى وقوف بعض عناصر الحكم في السودان وراء المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري، وتصاعدت حدة الأزمة بين القاهرة والخرطوم، ومنذ ذلك الوقت تحولت العلاقات بين البشير ومصر إلى أدنى درجاتها، وعادت الأمور إلى مجاريها ظاهرياً تدريجياً ولكن جوهر العلاقات بين البلدين لم يعد إلى مستواه الطبيعي، خصوصاً بعد تقسيم السودان وظهور دولة الجنوب التي احتفظت معها مصر بعلاقات أفضل من دولة الشمال في ذلك الوقت، حيث مارست كوادر الجبهة الإسلامية في الخرطوم دوراً معادياً لمصر بقيادة حسن الترابي في مرحلة وقيادة عمر البشير شخصياً في مرحلة تالية، واستولى عمر البشير على استراحات الري ومقر جامعة القاهرة فرع الخرطوم في محاولة للقضاء على رموز الفترة الذهبية للعلاقات المصرية السودانية، ورغم محاولات البعض إصلاح ذات البين بمشروعات فكرية موثقة وفي مقدمتهم صديقي الراحل الإمام الصادق المهدي الذي اقترب من القاهرة في سنواته الأخيرة وأجرى مصالحة تاريخية بين الحركة المهدية والدولة المصرية وذكرنا بأن الإمام المهدي الكبير كان يريد مقايضة (غوردون) قبل اغتياله بأحمد عرابي في منفاه.

خامساً: لقد سقط نظام البشير وحاولت مصر في ظل حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استعادة الثقة الكاملة مع رموز الحكم في الخرطوم وأعضاء مجلس السيادة بشقيه العسكري والمدني وقطعت في ذلك شوطاً كبيراً وهي تحاول دعم الاستقرار في السودان، خصوصاً أن القاهرة والخرطوم شريكان مع أديس أبابا في معضلة سد النهضة، وقد كان البشير مؤيداً ولو بشكل غير مباشر للموقف الإثيوبي في مباحثات السد، وها هو السودان الآن في مفترق الطرق تتحسن علاقاته بالغرب والولايات المتحدة مع رفعه من قائمة الإرهاب إلى درجة الحديث عن علاقات إسرائيلية سودانية تتجه إلى التحسن الكبير في ظل متغيرات ضخمة في إطار الصراع العربي الإسرائيلي خلال العامين الأخيرين بعد أن فتحت بعض الدول العربية أبوابها للعلاقات الكاملة مع إسرائيل، ولم يستقر السودان في أحواله الداخلية بعد، وما زال الحراك قوياً في الشارع السوداني كي يصل إلى نقطة الاستقرار التي نرجو ألا يكون بعيداً، فالشعب السوداني يستحق أفضل بكثير مما مر به من أحداث وتحديات ومشكلات. هذا هو السودان في مفترق الطرق ونحن على ثقة أن الاختيار الوطني سوف يكون هو الأقوى لدى قادته وزعمائه من كافة الطوائف والاتجاهات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى