إسرائيل … العودة إلى الجاسوس رقم 1 ؟!!
عندما أعلن نتنياهو عن تعيين دافيد برنيع في منصب رئيس الموساد، كتبنا هنا أن أحد تحديات رئيس الموساد التالي سيكون الحفاظ على شبكة علاقات الموساد في الشرق الأوسط، التي قبعت في أساس القدرة على التوقيع على سلسلة اتفاقات السلام. فالتوقيع شيء، قلنا، ولكن الحفاظ على هذا وتطويره شيء آخر. هذه العلاقات هشة وقد تكون في خطر عميق مثلاً بسبب انفجار العنف مع الفلسطينيين.
هناك من قال إن كل شيء يمكن، ولكن ذلك الأمر قد يكون أقل إمكانية. فالفلسطينيون لم يعودوا يهمون أحداً، وحتى لو جاءت جولة أخرى معهم فإنها لن تغير شيئاً في النهج تجاه إسرائيل في العالم بعامة وفي الشرق الأوسط بخاصة. كما من الصعب أن نعرف، ولكن يخيل بأن المجريات منذئذ أثبتت كم هم الفلسطينيون حاضرون، والشرق الأوسط مكان دينامي ومن يمارس فيه استراتيجية الأمس سيخسر.
يتلقى دافيد برنيع هذا الإرث في حالة طازجة تماماً. وأمامه كثير من العمل لإقناع الدول العربية بأن شيئاً لم يتغير، ناهيك عن محاولة ضم دول أخرى لمسيرة السلام. لقد كانت إحدى مزايا يوسي كوهن هي معرفة كيفية التكيف مع الواقع المتغير، وقال عن ذلك إنها قدرة التكيف مع وضع جديد، ومع ذلك أخذ المبادرة واستغل احتياجات الجهاز. فمثلاً، الفهم بأن إدارة ترامب ليست مجرد قصة حب مع نتنياهو، بل فرصة لمرة واحدة قد تكون للخروج من العمليات الأكثر جنوناً التي يمكن للموساد أن يتخيلها.
وبالمناسبة، هناك من يقول إن من شخص إمكانية هائلة كامنة في نجاح كوهن، وليس فقط كجاسوس، هو نتنياهو نفسه، الذي رأى فيه خطراً سياسياً، ولهذا فقد طلب منه تمديد ولايته أكثر فأكثر. من ناحية نتنياهو، كان يمكن لكوهن أن يبقى في منصبه ولكنه أصر على وضع نقطة، لأن المرء لا يجب أن يتحدى الحظ 38 سنة بدون خلل، لأنه يتخوف من عدم الحسم السياسي وأنه سيعلق في حكومات انتقالية. وفي اللحظة الأخيرة، أقر المستشار القانوني للحكومة إقرار تعيين برنيع.
خدم دافيد برنيع في وحدة “سييرت متكال” وهو رئيس الموساد الثاني الذي يأتي بعد أن قضى معظم حياته السياسية في قسم “تسوميت”، قسم تجنيد وتفعيل العملاء، المكان الذي يتعلم فيه المرء كيف يشخص محيطاً متغيراً ويجري التعديلات اللازمة. كانت محطته الأولى في أوروبا تحت قيادة كوهن، ومنذئذ والرجلان ينقلان دوره، فيما كوهن هو المعلم الأكبر. خدم كنائب رئيس قسم “كيشت” الذي يعنى بالملاحقات والاقتحامات والعمليات في بلدان القاعدة والدول التي لإسرائيل معها علاقات دبلوماسية. ولايته كنائب لكوهن أعطته دورة مليئة جداً بما يتضمنه المنصب. تبنى كوهن تقاليد مئير دغان (سلسلة عمليات تكتيكية تؤدي معاً إلى تأثير استراتيجي) واستخدام كل البنى التحتية، والضغط على كل الأزرار التي أعدت على مدى السنين، بكل أساليب الاستخبارات، وجمع المعلومات والعمليات المختلفة، وشد كل خيط، وفحص كل مبادرة وأخذ الموساد لفترة العمليات الأكثر تحميلاً في تاريخه.
هذا النهج، الذي يتبنى أكبر عدد ممكن من العمليات التي لها نهاية واضحة، والتي تنتهي بإلحاق ضرر كبير للخصم يتميز به برنيع أيضاً. ولكن يجب أن نتذكر بأن العالم يعطي رئيس الموساد دوراً مختلفاً جداً عن كل منصب آخر في الجهاز. “هو منصب كل واحد من الـ 7000 موظف يمكنه أن يفشلك في أي لحظة”، هكذا وصف مسؤول سابق ذلك بلغة ليست لطيفة. كل عامل في الجهاز قد يحدث خللاً دراماتيكياً، وكل خلل كهذا – يقع مباشرة على رأس الرئيس. ثمة رؤساء انتظروا كي يصبحوا رئيس الموساد في السابق.
كما أن الإسناد العملياتي والسياسي لنظام ترامب انتهى، ومعه فترة تاريخية في الموساد. فبرنيع يتلقى أغلب الظن اتفاقاً نووياً مشابهاً جداً لذاك الذي قرر ترامب هجره، اتفاقاً معناه أن الموضوع يشطب عن جدول الأعمال إلى هذا الحد أو ذاك. وهذا يبقي إسرائيل وحدها مرتين: مرة في الحاجة إلى تكريس مقدرات هائلة لجمع المعلومات داخل إيران، ومرة أخرى لتأكيد مخزون العمليات التي لها نهاية صاخبة. وفي هذه العمليات، لا يمكن بالطبع الضغط على الزر ذاته مرتين.
لبرنيع تحد كبير آخر، وهو مواصلة سياقات دراماتيكية لبناء قوة الموساد في عالم يضم الكثير من المعلومات التي قد تصل بوسائل إلكترونية أو سايبرية تفجر منشآت نووية وتصفية علماء. ولكن ومن جهة أخرى، فإن الوحدات التي عملت في الماضي في مهامات جمع المعلومات والحملات في أعمال أراضي العدو، يكون على “سييرت متكال” وقسم “قيساريا” في الموساد أن يكيّفا نفسيهما بتحديات جديدة. فالمنظومات الهائلة، المهمة والغالية جدا من الجيل الجديد، في الجيش والموساد، تحتاج إنعاشاً عاجلاً والتفكير في كيفية استغلالها بشكل أفضل أو تقليصها في صالح منظومات أخرى. هذا قدس أقداس الاستخبارات الإسرائيلية، ولا مجال لحسد رئيس موساد أمامه تحديات لقرارات أليمة للقطع في إرث البطولة هذا.