السياسة

النفاق الوظيفي وصفاته – بقلم / د. / اسامة الشهاوي

إنّ النّفاق  و تزييف الحقائق في العمل الوظيفي يجعل من إقتصاديّاتنا في تدهور وذات مردوديّة ضعيفة وأردنا من خلال طرح هذا الموضوع توثيق هذه السّلوكيّات والوقوف على أسبابها وأنواعهاومدى إصلاحها.

فكم من مؤسّسة تعجّ بموظّفين يملؤون آذان وأسماع مديريهم بالمديح والثّناء “كذبًا” وهم يعتقدون أنّهم يحسنون صُنعًا ،فإن أخطأ المدير أو أصاب في قراراته فهو دائمًا على حقّ من وجهة نظرهم أو بمعنى أدق أمامه فقط، وهذا ما يسمّى بالنّفاق الوظيفي, وهذا النّفاق تختلف أشكاله وطرق ممارسته ودرجة خطورته, لكن ثمّة نوعان بارزان له. فأحيانًا قد ينافق الموظّف مديره عن طريق تأييد آرائه و قراراته على الدّوام بالرّغم من قناعته داخليّا بعكس ذلك. فرأيه الحقيقيّ الّذي يؤمن به يحتفظ به لنفسه دائمًا خوفا من مكائد الّتي سوف تسبّب له خسارة وظيفته إذا تفوّه بالحقّ .

أمّا النّوع الآخر فهو ذلك الموظّف الّذي يؤيّد المدير في حضوره ثمّ يعارضه بمجرّد أن يدير له ظهره وهذا النّوع من النّفاق ربّما يكون الأسوأ, و إن كان هناك خطأ يقع على من يمارسون النّفاق في عملهم فإنّ هناك خطأ مماثلًا من طرف المديرين او من أصحاب المؤسّسات أيضا لأنّه إمّا نتيجة لتسّلط بعضهم والّذي يؤدّي أحيانًا إلي هذا السّلوك الّذي يقبله ذلك المقهور ضعيف الشّخصيّة , أو نتيجة لقبول بعضهم هذا النّوع من النّفاق, فلا يوجد مدير يتمتّع بقدر ضئيل من اللّباقة والفطنة غير قادر على كشف من يداهنه ممّن يصارحه خاصّة إذا ظهر أنّ الموظّف مؤيّد له على الدّوام ، ولعلّ خطورة هذا الأمر هو سكوت المديرهو الّذي سيكرّس سياسةالنّفاق الوظيفي داخل المؤسّسة .وبالطّبع سيكون له مردود سلبي على إنتاجها ومردوديتها  وهذا السّلوك  إنتشر وتفاقم بصورة كبيرة في المجتمع وأصبح كالوباء  ممّا سيؤدي إلى تدهور الأمور وسيؤثّر على نطاق واسع في قيم المجتمع وعلى إقتصاده بصورة سلبيّة, ولأنّ هذه أزمة هي أزمة قيم أخلاقيّة لا تتجزّأ من قيم المجتمع ككل و هنا يكمن الخطر. ولإدراك خطورة هذه المسألة ولتمكين أصحاب الرّأي الصّادق والشّفاف من البروز في مراكزالقراربالموسّسات،   قامت عديد الدّول الغربيّة بإنشاء برامج إصلاحيّة للمصارحة الإداريّة والتي هي أيضا جزء من الرقابة الإداريّة، حيث تم بعث وحدات للتعامل النّفسي مع الموظّفين وتحسين أدائهم الوظيفي وذلك من خلال دورات وندوات علمّية لإبراز القيم الأخلاقيّة في العمل  والتشجيع على إبداء الرأي  بكل صدق وبكل شفافيّة والتحرّر من عقدة الخوف من مرؤسيهم. ورغم سعي الكثير من مؤسّساتنا العربية إنشاء أقسامًا و وحدات تحمل  عدة مسمّيات تعنى بالموارد البشريّة وتدريبها وتطويرها إلاّ أنّها لم تعرالإهتمام  المطلوب في مواجهة هذا المشكل ألا وهو النّفاق الوظيفي.

وانطلاقًا من هذا الفهم الخاطئ بأنّ هذا السّلوك ربّما يكون إحدى السّيمات الشّخصيّة لمُمْتَهنيه ،إضافة إلي وجودإتّجاه داخل بعض المؤسّسات لإضفاء الشّرعية على النّفاق الوظيفي بوصف هذه الأمور بدبلوماسيّة الوظيفية أو من باب المجاملة في العمل.

وليس صعبًا على أي  رجل اقتصاد أن يدرك خطورة هذه الممارسات على إنتاجية المؤسّسة وأدائها وتعيكر أجواء العمل داخلها ومن هنا تأتي أهميّة مكافحة هذا السّلوك اعتبارا من أنّ مزيّف الحقائق في العمل لايُعْتَدُّ برأيه،و نظراوأنّ النّفاق محرّم دينيًا و أخلاقيا فما نراه  اليوم في مؤسّساتنا العربيّة هو محاولة من قبل الموظّف للتّباهي الشّكلي لا الدّاخلي مع بيئة الأعمال التي يرتزق منها، أو بتعبير آخر أن يسلك الموظّف عكس ما يعتقد لأنّ مصلحته قد لا تتحقّق إذا عبّر عن  رأيه بكلّ وضوح وبكلّ صراحة, وحتى لو كان رأيه في مصلحة المؤسّسة. ويرى  أيضًا أن الشّخص المسؤول الذي يُعتبر أعلى منه كالمدير مثلًا تتولد عنده مشاعر الغيرة والكره لأن ذلك الموظّف أصبح رجلًا كُفؤًا مما سيشكّل خطرًا على منصبه اوعلى رؤساءه الغير نزيهين،  فيعمل جاهدًا على التخلّص من هذا الموظّف بشتّى الطرق الملتوية .

وعندما ندرس سويًّا المعنى اللّغوي لكلمة “النّفاق” اشتقّت من لفظة “نفق” التي تعني مساحات تحت الأرض يسودها الظّلام في أغلب الأحوال, ولها أكثر من مخرج يوصل إلي سطح الأرض حيث النّور والوضوح ففي الظّلام تبيت النوايا وتجهر الأقنعة المناسبة لتأدية الأدوار المطلوبة ضمن مخططات الفساد في ذلك النفق المظلم.

وإذا أردت أن تكتشف أسباب أو إن شئت الدقة لمتابعة النّفاق الوظيفي في ثقافتنا العربية فعليك أن تنتبه فورًا لسريان ثقافة التسلّط في منطقتنا العربية فمدير الشّركة في مؤسستنا العربية مثلًا يعتقد أنّه رئيس دولة مستبد يخرج كلّ مشاكله النّفسية على موظّفيه ومن ثمّ يدفعهم إلي استيعابه وإتّقاء شرّه خاصّة وأنّه يملك كل السّلطات التي تخول له طرد أو مضايقة من يخالفونه في العمل دون محاسبة حقيقيّة أو أي إنذارات مسبقة.

وإذا كان السّلوك الغير سويّ لهؤلاء المديرين هو أحد أسباب ثقافة النّفاق فإنّ الموظّفين أنفسهم غَدُوا في هذه الثّقافة لأنّ لديهم القابليّة لذلك, إمّا لأنّهم ضِعاف المهارات أو غير مؤهّلين لأداء أعمالهم أو أنّهم  دخلوا المؤسّسة بطريقة غير شرعية وهو أمر مستشري في منطقتناالعربيّة التي تسود فيها ثقافة الولاآت و المحسوبيّة وخاصّة القبليّة و الجهويّة  والتّشابك المصلحي بين الأفراد بمنطق “نخدمه اليوم وسيخدمنا غدًا”.

وبالإضافة لما سبق ثمّة عوامل ذات طبيعة هيكليّة تحيط بالمؤسّسات العربيّة وتغذّي النّفاق الوظيفي أهمّها أزمة البطالة المنتشرة التي يصل متوسّط معدّلاتها إلى 30% في أوطاننا العربيّة وفقًا للإحصائيّات الرسميّة وبعض من هذه الإحصائيّات تعتبر قديمة جدًّا ولا يعبّرعن النِّسب الحقيقيّة للبطالة، وهو ما يدفع أيّ شخص يعمل في وظيفة إلي التمسّك بها أو بالأحرى القتال عليها ممّا يسبّب أيضا البطالة المستدامة وتفاقمها.

 و لأنّ سوق الشّغل أصبحت ضيّقة ولا وجود لأنظمة كافية لإعادة تأهيل الشّباب وفرص تشغيلهم حتّى يشعروا أنّهم جزء لا يتجزّأ من هذا المجتمع وإنّهم دعامة من دعاماته وبُنَاة مستقبله وذلك بمزيدالبذل  والعطاء بكلّ حبّ ورحابة صدر.

وأيضًا  فإنّ النّفاق يخلق حالة من الشّخصانيّة للمؤسّسات أي أنّ الموظّفين يربطون عملهم برئيسهم فما أن يرحل عن منصبه أو ينتقل إلى منصب آخر تتغيّر القواعد وتتبدّل الأمور ولعلّنا نشاهد ماذا يحدث عندما يأتي شخص مسؤول جديد في منصبه فأوّل شيء يقوم به هو محو كلّ ما فعله سلفه سواءٌ أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا, وهذه عادة تمتدّ من كبارالمسؤولين إلى أصغرهم حتّى ولو كانت في أصغر المؤسّسات.

ورغم أنّ الإنسان لن يستطيع أن يتقدّم دون أن يعرف سلبيّات وإيجابيّات أسلافه حتّى يستطيع عمل قِيمة مُضافة في عمله إذا رغِب في التميّز و النّجاح كما ذكرنا سابقا. إنّ الموظّف الّذي يُزيّف الحقيقة لا حقيقة له في الأصل، و إعتباره شخص غير كُفؤ و غير صادق  فإن مكافحته تتطلّب من مؤسسّات الأعمال التّوقف عن الأخذ بآرائهم و تطبيق قواعد الشّفافية و المحاسبة والعدالة والدّيمقراطية في إتّخاذ القرار وذلك ما نطمح إليه في  بناء القواعد الأساسيّة لحسن إدارة الأعمال ، فما ظهر نفاق وظيفي إلاّ في بيئة إفتقدت لهذه القواعد وإنتشر فيها الفساد الإداري وأصبح الإنتاج الذي يعتمد عليه الموظّفون لا يكاد ينفع وبالتّالي ينهار الاقتصاد وتنهار المؤسّسات.

وخِتامًا :

نستنتج أنّ النّفاق الوظيفي هو العامل الرّئيسي لخسارة وفشل بعض الشّركات والمؤسّسات التي تعتمد اعتمادًا كليًّا على كوادر تتمعّش من هذا الدّاء الأخلاقي وخدمة لمصالحها الضيّيقة ألا وهي المنفعة االخاصّة .

 فمن وجهة نظري وجب علينا أن نعمل سويّا مع كلّ مدير و كلّ مسؤول .. بكلّ جد وبدون كلل أو ملل من أجل محاربة هذه الظّاهرة المستفحلة، وكلّ في مجال عمله أو في حدود مسؤوليته الوظيفيّة .

وأوّلها  هو الحوار الشّفّاف بين الموظّف والمدير وهو السّبيل الأمثل للقضاء على مثل هذا السّلوك وبالتّالي سيكون الأداء الإنتاجي والاقتصادي لأي مؤسّسة أو شركة أفضل بكثير, وتذكروا أن الصّراحة والشّفافية والتمسّك بالمبادئ يؤدي إلي احترام الشّخص وتقديره والاعتزازبالذّات, بينما النّفاق الوظيفي وتزييف الحقائق لا يطول مفعوله ولا يكون دائمًا ذا نتائج إيجابيّة .. حمى الله مجتمعاتنا وومؤسّساتنا  من النّفاق وشرّه ووفّق المسؤولين من أجل بناء اقتصاد الغد والحفاظ على مبادئ مجتمعاتناالعربيّة والإسلاميّة.

وأخيرا أردنا من خلال هذا المقال البحثي تسليط الضّوء على هذه السّلوكيات ونسأل الله العافية من كلّ نفاق وألهمنا حسن السّريرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى