نشأة ومظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم قديماً ومدى تطوراته حديثاً
بقلم / أ.د. أيمن وزيري أستاذ الآثار والحضارة المصرية ورئيس قسم الآثار المصرية بكلية الآثار- جامعة الفيوم نائب رئيس إتحاد الأثريين المصريين والمُمثٍّل العام لمؤسسي الإتحاد
يبدو جلياً أن الاحتفال بعيد شم النسيم هو بمثابة مظهر يضرب بجذوره إلى مهد الحضارة المصرية القديمة ، وهو يُعبر ويُبرز مدى تلاحم النسيج الشعبي في المجتمع المصري ، كما إنه يبدو مظهراً فعَّالاً لا يعتريه شك في كونه تعبير دال على الوحدة الوطنية بين طوائف الشعب المختلفة قديماً وحديثاً ، وهو يُعضد المفهوم الكامن في أن مصر القديمة والقبطية والإسلامية تتجلى مُجتمعةً في بوطقةٍ واحدةٍ وفي مظهرٍ واحدٍ للاحتفال بمظاهر تجدد الطبيعة الكونية. وقد غلب الفكر بأن الاحتفال بالأعياد في مصر كان مُرتبطاً ببعض الظواهر الفلكية وتحددها الأجرام السماوية من خلال علم الهيئة أو كما يُعرف باسم علم الفلك وتتضح علاقتها بجلاء من خلال الطبيعة ومظاهر بعث الحياة على وجه البسيطة الكونية .
وإذا ما أخذنا برأي كلٍ من العلماء ومنهم Sethe و Meyer و Borchardt من حيث أن بداية التقويم المصري القديم يرجع إلى ما بين 4241 – 4236 قبل الميلاد ، فإن الاحتفال بهذا العيد وتلك الأعياد تمتد جذورها إلى حوالي 6257 سنه ، أما إذا ما أخذنا بآراء العلماء ومنهم Neugebauer و Scharff و Parker من حيث أن بداية التقويم كان يرجع إلى ما بين 2800 – 2773 قبل الميلاد ، فإن ذلك يمتد بجذوره إلى حوالي 4816 سنه . وكلاهما يؤكد سبق الحضارة المصرية وامتداد جذورها وعراقتها البالغة في القدم والعراقة .
ولوحظ أنه كان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم احتفالاً كبيراً حيث يتجمعون كما يُعتقد أمام الواجهة الشمالية للهرم قبيل غروب الشمس فيتجلى قرص الشمس وهو يميل للغروب مقترباً تدريجياً من قمة الهرم حتى يبدو للرآيين وكأنه فوق قمة الهرم كما تبدو واجهة الهرم أمام أعينهم وكأنها قد انشطرت إلى شطرين أو قسمين تمثيلاً لعلامة الأفق ، وقد لفتت هذه الظاهرة الفلكية انتباه عالم الفلك البريطانى “ركتور” الذي عكف على دراسة دورة الشمس في الأفق فى يوم 21 مارس وتحديد مرورها فوق قمة الهرم وقت غروب الشمس تحديداً ، وفى عام 1930م قام بالتقاط بعض الصور خلال عشرين دقيقة بدءًا من الساعة السادسة مساء يوم 21 مارس .
وذلك بالتحليق بإحدى الطائرات فوق قمة الهرم حيث يظهر قرص الشمس للعيان، وكأنه يتربع فوق قمة الهرم وحيث يظهر ضوء الشمس وكأنه يشطر واجهة الهرم إلى شطرين. وفى عام 1934م قام العالم الفرنسى “اندريه بوشان” بمحاولة مُماثلة باستعمال الأشعة تحت الحمراء ، وقد نجح في التقاط عدة لقطات سريعة استغرقت حوالي ثلاث دقائق وتمكن من خلال ذلك من إمكانية تسجيل تلك الظاهرة الفلكية المُثيرة التي توضح مظاهر انشطار القمة الهرمية ليلة عيد الربيع إلى شطرين . وجدير بالملاحظة أنه مازال المصريون يحافظون على طقوس ومظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم والتي قد تبدو واضحةً من خلال الخروج في جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات، ليكونوا فى استقبال الشمس عند شروقها ، ويحملون الأطعمة الخاصة بهذا العيد ، ويقضون يومهم فى الاحتفال به بدءًا من شروق الشمس حتى غروبها . وقد لوحظ جلياً أن المصري القديم قد اكتشف وعرف فصول السنة.
ثم ظهرت فكرة تجميع الشهور نفسها داخل الفصول ، وأخيراً ضم الفصول المحتوية على الشهور معاً داخل وحدة أكبر هى العام، وذكرت هذه الفصول وخصائصها فى أناشيده الدينية فعلى سبيل المثال تم ذكرها فى أناشيد الملك آخناتون الموجهة للمعبود آتون وجاء فيها: “أنت تخلق الفصول، لأجل أن ينمو كل ما صنعت فالشتاء يأتى إليهم بالنسيم العليل، والحرارة لأجل أن يذوقوا أثرك” . وقد قسم المصرى القديم السنة إلى ثلاث فصول، كل فصل أربعة أشهر، وكانت الشهور فى البداية تعطى أرقاماً أى كل شهر برقم خاص به .
وعرفت الشهور فيما بعد بأسماء الأعياد التى تقع فيها ، ثم بأسماء الشهور التى عرفت فى التقويم القبطي . وقد تعددت مظاهر الاحتفال بالأعياد فى مصر القديمة فكان منها ما يتصل بالتقويم ومنها ما يتصل بالملك والملكية، وكذلك الأعياد والاحتفالات المرتبطة بالتقويم مثل عيد رأس السنة وعيد فيضان النيل وعيد الحصاد، وعيد ظهور نجم الشعرى اليمانية وأعياد فصول السنة وأعياد أيام النسئ وعيد أخر السنة إلى جانب الأعياد الشهرية مثل عيد اكتمال القمر وعيد ظهور الهلال وهذه الأعياد كانت تضمن للمصري القديم حسب مُعتقداته استقرار الكون واستمرارية الحياة وتكفل تحقيق البعث والتجدد الكوني أجمع .
واعتمدت الأعياد فى مصر القديمة بصفةٍ عامة على حدوث شئ معين يكون ذي مغزى معين، مثل الأعياد المرتبطة بالملكية والأعياد المرتبطة بالأساطير، وكان العيد يتكرر بانتظام فى نفس الوقت من الاحتفال به، ووجد العديد من القوائم والسجلات التى تذكر أسماء الأعياد، منها على سبيل المثال قوائم عصر الدولتين القديمة والوسطى، وقائمة الكرنك من عهد الملك تحوتمس الثالث .
وكان الاحتفال بالعيد يبدء منذ الليلة السابقة له ، وقد كان لعلم الفلك تأثير كبير على التقويم ومعرفة مواعيد الأعياد ومواقيت الزراعة وتحديد الفصول الثلاثة على مر السنين . ومن أهم هذه الأعياد ما يلى: عيد رأس السنة وكان يُحتفل به فى الشهر الرابع من فصل الصيف وأخر شهور السنة القمرية .
أما عيد نهاية السنة فقد كان الاحتفال به يسبق الاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة ، وقد ذُكر هذا العيد فى قائمة أعياد مقابر الدولة الوسطى . أما عن عيد ظهور نجم الشعرى اليمانية فى الأفق الشرقى عند الفجر بين يومى 17، 19 يوليو حسب التقويم اليولياني . وهو يُعبر عن العيد الذى يُحتفل به بمناسبة هذه الظاهرة الفلكية المهمة. وهناك أعياد أيام النسئ وأُعتبرت هذه الأيام من خلق المعبود جحوتى إذ خلقها للمعبودة نوت لتنجبهم من المعبود جب بعد أن حرَّم عليها المعبود آتوم أن تضع حملها فى أى يوم من أيام السنة.
وترجع أقدم إشارة لهذه الأيام من عهد الملك نى وسر رع من الأسرة الخامسة، وارتبطت هذه الأيام بالشهر الأول من فصل الفيضان أكثر من كونها متصلة بالشهر الأخير من فصل الصيف. أما عيد الحصاد فهو يُعتبر من الأعياد المهمة فى مصر القديمة، وكان يتم فيه جمع وحمل القرابين من سنابل الحبوب والثمار وتقديمها للمعبودة رننوتت والمعبود نبرى وذلك فى اليوم الأول من أول شهور فصل الصيف بشنس والشهر الثامن من أشهر السنة القمرية الذي يُسمى رننوتت ، وجاء اسم هذا العيد فى بردية إيبرس والرمسيوم وإدفو.
أما عن عيد فيضان النيل كمظهر للاحتفال بقدوم فيضان النيل فى منتصف شهر يونيه ، الذى أتخذه المصرى القديم كبداية للسنة فى التقويم ، وارتبط أيضاً هذا الاحتفال بالمعبودة إيزيس التى كانت تبكى على زوجها المعبود أوزير بعد مقتله، وربط المصرى القديم بين هذه القضية التى خصها بتعبير “ليلة الدمعة” وبين فيضان النيل حيث اعتبر أن هذه الدموع كانت السبب فى قدوم الفيضان ، كما أن المعبودة إيزيس أتحدت مع النجم سبدت كتجسيد لبداية السنة ومجئ الفيضان . وهناك عيد ظهور الهلال أو عيد القمر الجديد أو ظهور الهلال وكان يُحتفل بهذا العيد فى اليوم الثانى من أيام الشهر القمرى ، ولم يكن الاحتفال بهذا العيد لكونه ظهور الهلال فقط ولكن لأنه من المُعتقد أن هناك رمزية دينية تخص هذا اليوم من الشهر . وهناك عيد اكتمال القمر تعبيراً عن بداية منتصف الشهر، ودالاً عن عيد اكتمال القمر الذى كان يوافق بعض الأعياد الملكية والأعياد الدينية مثل عيد خروج المعبود آمون، ويُعبر هذا العيد عن معنى رمزى حيث يرمز إلى انتصار النور على قوى الظلام وبالتالى انتصار الخير على الشر.
وقد اهتم المصرى القديم بتسجيل أوقات هذه الأعياد ومظاهر الاحتفالات حتى يحيى ذكراها فى أوقاتها المقررة من قبل المعبود الخالق حفاظاً على سير الزمن واستقرار الكون فيلاحظ فى المقبرة رقم “42” من مقابر طيبة أن عيد بداية العام هو عيد المعبود نحب كاو ، وفى المقبرة رقم “82” ذكرت أيام محدده هى أعياد خاصة بميلاد أوزير وميلاد حورس وميلاد نفتيس . وكل تلك الأعياد تدل وتُرسخ مفهوم استقرار الكون والنظام واستمرارية وتُجدد وبعث الحياة والطبيعة على الأرض. ونسأل الله أن يجعل كل أيام المصريين والأمة العربية أعياد وفرحه وبهجه وكل سنه والجميع بخير .