فيلم “بيدون 2”: تركيب أزمة تسائل جسد التونسيين وفراغ النظام
“بيدون 2” للمخرج جيلاني السعدي هو الفيلم التونسي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في أيام قرطاج السينمائية، الوحيد ولكنه ربما من حيث الشكل أحد أبرز الأفلام التي صنعتها تونس…
تتواصل فعاليات الدورة 25 من أيام قرطاج السينمائية في تونس، وعرض الخميس لأول مرة فيلم “بدون 2” بعد أن ثار جدل “مرغ ومزبد” حول كونه الفيلم التونسي الوحيد الذي يتنافس على “التانيت الذهبي” ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.
“بيدون 2” هو الفيلم الطويل الرابع لجيلاني السعدي صاحب “خرب” و”عرس الذئب” و”وينو بابا”. “بيدون” ماذا ؟ و”بيدون” من ؟ وكأن السعدي يسخر من محاولاتنا للتأويل. وللصحافة البائسة أن تقول في حال فشلت في أن تفهم مغزى القصة أن فيلم “بيدون” التي تعني أيضا بالعامية التونسية “زائف” و”لا قيمة له”. أمام عبثية الحياة هل وجب وهل أمكن فهم كل شيء ؟ هذا هو الدرس الذي يلقننا إياه المخرج من البداية في تجربة يلفها الغموض، وتولّد القلق من مصير مبهم. لا تهم الإجابة، الطريق هو المهم. وكان طريق السعدي في بحثه معاناة التونسيين وخصوصا الشباب “حسّية” و”جسدية”. فتدور أغلب الأطوار بين رحلة البطلين عائدة وعبدو في السيارة، وفي الفواصل “البحرية” العميقة. يبحث الفيلم غربة التونسيين في بلادهم، عبر كتابة غريبة. في 2013 يعيش المجتمع على وقع كتابة الدستور، فرافقت جزءا من الشريط خلفية صوتية لنقاشات النواب حول فصل منع التكفير، بعبارات على غرار “التطرف الديني والعلماني” وأخرى تذكر بكل أشكال الهلوسة الشعبية التي اعترت مختلف الميادين واكتسحت الأجساد والعقول بعد أكثر من سنتين على الإطاحة بزين العابدين بن علي الذي تفتتح وتختتم صورته الفيلم… مقلوبة.
رأسا على عقب، هكذا هو “بيدون 2” : الموسيقى “حوماني” الأشهر في البلاد لمغني الراب كافون، سكر وصوفية، تلتقي أقصى التناقضات حين يعري حميمية مواطنيه بأسلوب يزحف على السريالية والروك. يلتقي هائمان صدفة، عبدو المتيم في حب امرأة ترفضه، وعائدة تمر بأزمة وجودية فتترك بيت أهلها وتعيش في الشوارع. فيفترقان ويلتقيان مرارا، يجمعهما الألم. ويرافقهما كظل بليد شخص غريب يرتدي فقط “روب دي شامبر” بنفسجي، لون التجمع الدستوري الحاكم في عهد بن علي. شخصية يتقمصها الجيلاني السعدي بنفسه في دور مخيف، فلا نعرفه إنسا ولا جنا، حيا ولا ميتا، تهديدا أم فرجا، طائر نحس أم ملاك حارس، رجل متقدم في السن أبيض الشعر نحيل الجسد صامت من البداية إلى النهاية، تتبناه عائدة وتتعلق به… سألنا السعدي إذا كانت هذه الشخصية هي النظام السابق الذي يحمله التونسيون في وعيهم ولاوعيهم فيتقيدون بسلوك نمطي رغم النزعة التحررية فقال “ربما هو الأب الذي نفتقده أو كل ما ينقصنا، فكيف نملأ الفراغ ونحن بين بينين”.
ومحور الفيلم الجسد والعنف، عبدو يغتصب المرأة التي لا تريده، بشراكة عائدة التي تقتحم بيتها وتشدها وتغمض عينيها، ويمارس “العادة السرية” علنا. عائدة تسب وتبصق. مجهولون يضربون عبدو. وفي نفس الوقت الجسد عاشق حنون متيم سابح في البحر متشوق لله حافظ لأبيات الحلاج. المادي والروحاني يلتقيان على خلفية الثورة التي أقل ما نقول عن فيلم “بيدون 2” أنه عرف كيف لا يتعامل معها كموضوع مبتذل. سألنا فتاة حضرت الفيلم فقالت “أحببته لأنه يشبه عالمي فأنا مللت الطرق الكلاسيكية المؤطرة” وسألناها ما إذا كان “اغتصاب الأنثى للأنثى” صادما بالنسبة لها فأجابت أن عنف النساء ليس غريبا عن زمننا “فهم يأخذونهم إلى سوريا حيث يفعلن ما يفعلن فلما الاستغراب”.
وعلى غرار “بيدون 1” الفيلم القصير من إخراج السعدي الذي عرض في إطار تظاهرة dreamcity عام 2012، يحمل السعدي الكاميرا على جسده ليتحول الجسد إلى مركز العمل ويلغي كل وساطة بين المتفرج الذي يتحول مخرجا بعد إلغاء أو “تصفية جسدية” للعدسة الوسيطة، ومحاولة الانتحار كانت من تجارب “بطل” الفيلم. ومن المقارنات التي يمكن أن نجرأ عليها هي ثورية الشكل في فيلم السعدي على غرار ما صنعه المخرج السويسري الفرنسي جان لوك غودار في فيلمه الأخير “وداعا للغة” الذي يعرض في المهرجان خارج المسابقة. فالأفلام التي تحمل توقيع الكبار هي تلك التي توسع أكثر فأكثر حدود الفن. وعلى غرار غودار يتقن السعدي الاستفزاز وروح التناقض، والخروج عن المسالك المعهودة وهي من العوامل الأخرى، إلى جانب المواضيع المطروقة، التي ساهمت في خلق أزمة لدى الجمهور الذي أسقطت عنه مراجعه فيشعر بالضياع. وفيلم غودار مزحة فلسفية بصرية ثلاثية الأبعاد من تقديم فيلم ثلاثي الأبعاد يكسر الحاجز بين الداخل والخارج وبين المخرج والمتفرج ، كما يفعل محرك دمى بارع
كيف تبنى السياسة حين يبدأ التفكير في الجسد…
وكان التأثر واضحا على المخرج جيلاني السعدي والممثلين الرئيسيين مجد مستورة وسارة حناشي الذين شاهدوا الفيلم لأول مرة واكتشفوه مع الجمهور. فقالت لنا سارة أن التصوير الذي دام 18 يوما كان مرهقا بدنيا حتى أنها أصيبت بالقمل. ورغم أنها عملت مع مخرجين كبار على غرار طيب لوحيشي وفريد بوغدير وفاضل الجزيري صرحت لنا بشأن تمثيلها في “بيدون 2” “إنها أقوى تجربة في حياتي أصفها بالاستثنائية إذ تماهيت مع شخصيتي المتمردة”. فأكدت سارة بخصوص امتهان التمثيل وهي امرأة في مجتمع محافظ نسبيا “عرفت صعوبات كبيرة في بداياتي لكنها تقلصت مع الوقت. فأنا أمتهن المسرح والرقص وهذا ليس سهلا في المجتمع التونسي الذي لا يتقبل هذه الأشياء، لا تكهنات لدي حول ردود الفعل الممكنة بعد هذا الفيلم. كل ما يمكن أن أقوله هو شخصيتي في الفيلم تحارب نفس الأشياء التي أحارب من أجلها في واقعي”. أما مجد مستورة وهو معروف بكتابته الشعر العامي وتنظيمه تظاهرات للقراءة في الأماكن العمومية تحت عنوان “كلام الشارع”، فكان “بيدون 2” أول تجربة له في التمثيل فقال لنا “من الشارع إلى الشاشة أنا من الناس الذين يعملون من أجل أن ننفث في الثقافة روحا جديدة. وكانت تجربتي في الفيلم فريدة وثرية تعكس واقع جزء من شباب تونس الضائع في علاقته بالسلطة والجسد والحب والدين. فالسؤال الحاضر بقوة في الفيلم “هل التدين حب لله أو خوف من الله ؟ من الأسئلة التي تغلي في تونس اليوم”.
فمرة أخرى في أيام قرطاج تجاوز المكان والزمان الخيال، فحضرت جماهير غفيرة لمشاهدة “الفيلم التونسي الوحيد في المسابقة” وإن كان السعدي دعا خلال تقديم العرض إلى تخطي هذا الجدل. وبدأ العرض قبل العرض، ليكمله أو يؤكد محتواه، إذ ماجت القاعة حين اكتشف الجمهور وجود حمة الهمامي الذي حل ثالثا في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية وزوجته الحقوقية والمحامية راضية نصراوي
ونصب في مدخل المسرح البلدي مكتب تصويت ليختار الجمهور فيلمه المفضل في المسابقة. وكأن التجربة “الديمقراطية” اجتاحت الأخضر واليابس. وعن الحضور الغفير للشباب التونسي بدا بعضهم متحفظا فقال لنا الناشر رؤوف الرايس “كل هذا الشباب يأتي لقاعات السينما ليملأ الفراغ الوحيد المتاح أمامه في غياب فضاءات أخرى للتعبير، لا غير” وأضاف “كل هذا الهرج ‘شفرة‘ لهذا الصمت فالسياسيون يتقمصون وضع رجال الدولة لكن لا يملكون المحتوى”. أصاب جيلاني السعدي في العمل حول مسألة الصمت والفراغ في محاولة احتواءه الواقع التونسي؟ .وإن كان الفيلم أعجب البعض فهو لم يرق للبعض الآخر الذين تساءلوا “لماذا اختير هذا الفيلم للمسابقة الرسمية ولم يختر “باستاردو” لنجيب بلقاضي” أو “الزيارة” ” لنوفل صاحب الطابع” …فالتونسيون غيورون على أفلامهم وأيضا من أفلامهم !
وقالت لنا راضية النصراوي وهي أيضا عضو خبير بلجنة الأمم المتحدة للوقاية من التعذيب “فكرة جيدة أن توضع صناديق اقتراع للجمهور ليشارك في التعبير عن رأيه بشأن الأفلام ، الثقافة مجال مهم جدا لكن للأسف ليست مفتوحة للكل فالفقراء والمعوزون لا نصيب لهم من العروض”… ذكرناها أن أيام قرطاج وصلت هذه السنة إلى بعض المدن في الداخل فقالت “لكن والمدن الأخرى ؟” …فضاء آخر على تونس الثورة والسينما أن تملأه.