مقالات

“بوكو حرام” في مصر

“بوكو حرام” في مصر
شادي لويس
منذ أيام، والأخبار عن قضية البنات المخطوفات في نيجيريا، تطاردني. في المكتب، يتجادل الزملاء في استياء وصخب غير معهود، مع أقرانهم النيجيريين، خلال استراحة الغداء. وفي صالة الألعاب الرياضية، يتابع المتريضون، وهم يتصببون عرقاً وبعيون ملؤها الرعب والتقزز، شاشات ضخمة تعرض تقارير أخبارية لا تتوقف عن تطورات القضية، وصوراً لميشيل أوباما حاملة لوحتها “أرجعوا بناتنا”. وفي الصحف الصباحية الموزعة مجاناً في مترو الأنفاق اللندني، تحتل تعليقات الساسة البريطانيين على القضية العناوين الرئيسية، بل حتى في نزهتي الصباحية خلال عطلة نهاية الأسبوع، فاجأني صراخ مجموعة من الأطفال لم يتعدوا السابعة من عمرهم وهم يلعبون في حديقة منزلهم الأمامية، إذ بينما تحاول البنات الاختباء خلف الأشجار، كان الأولاد يتراكضون في دوائر صارخين: “بوكو حرام”.

يبدو الاهتمام الإعلامي المكثف بقضية البنات المخطوفات أمراً محموداً وضرورياً، وتعبيراً صادقاً عن تضامن إنساني مع مأساتهن، عابر للحدود السياسية. لكن تلك القصة، في هيمنتها على وسائل الإعلام، لا تنتج فقط رعباً من برابرة “بوكو حرام”، بكل ما يمثلونه من رجعية وهمجية العصور الوسطى: استعباد النساء، والاتجار بالبشر، والاستغلال الجنسي للأطفال ومعاداة المعرفة ونظام التعليم في صورته الغربية. بل هي أيضاً تكثيف لشرور البشرية وحصرها في تلك الولاية الشمالية في الدولة البعيدة في غرب أفريقيا. تكثيف لا يسعى إلى تأكيد وجود الاستعباد و القهر الإنساني، بل إلى نفيه عن الذات. تطغي أخبار المأساة النيجيرية في بريطانيا، حيث المستقبل الأكبر للرقيق الأبيض في أوروبا وأهم نقاط الالتقاء لخطوط الإتجار بالبشر لأغراض الدعارة والخدمة المنزلية في العالم الغربي. فتغطّي على التغطية الإعلامية للجدل السياسي الحالي داخل مجلس العموم البريطاني حول تشديد قوانين مكافحة العبودية والإتجار بالبشر، الأمر الذي يلقى مقاومة مستميتة من دوائرالمصالح الرأسمالية، والتي ترى في تشديد الإجراءات القانونية المقترحة تأثيراً سلبياً في تدفق الاستثمارات الأجنبية وحركة السياحة خصوصاً من دول الخليج العربي وجنوب شرقي آسيا ودول الإتحاد السوفيتي السابق.

وفيما تعيد وسائل الإعلام الغربية رسم خطوط الحرب المقدسة، بين الخير والشر، تتلقف وسائل الإعلام المصرية المأساة النيجيرية لتذكيرنا، ضمناً، وبصراحة أحياناً، بالمصير المظلم الذي كان ينتظرنا لو استمرت “الجماعة الإرهابية” في الحكم، وتذكّرنا بالمعركة التي خاضها الجيش المصري، وعلى رأسه المشير السيسي، لإنقاذ مصر من براثنه. لكن مراجعة عابرة للشأن النيجيري تطرح رواية مغايرة للواقع المصري البائس.

ففي مقالة للروائية والشاعرة النيجيرية، لولا شونين، عن الفتيات المخطوفات في جريدة “غارديان” البريطانية، الأحد الماضي، تُطرح صورة أكثر تعقيداً لمعاناة الفتيات في نيجيريا. وفي سبيل التدليل على ذلك، تروي شونين فضيحة سياسية، تورط فيها أحمد يريما، عضو البرلمان النيجيري، والحاكم السابق لولاية زمفارا النيجيرية الشمالية، وهي أول ولاية نيجيرية تطبق الشريعة الإسلامية. ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي، طلّق يريما واحدة من زوجاته الأربع، والتي كان تزوجها قبل أربعة أعوام عندما لم يكن عمرها يتجاوز 13 عاماً. الفتاة المطلّقة، التي أنجبت له طفلاً واحداً، تدعى ماريان (أو مَرية، أو مريم)، بحسب وسائل الإعلام النيجيرية التي كشفت أن الزوجة – الطفلة هي ابنة سائق يريما، المصري، والذي اعتاد توظيفه أثناء رحلاته المتكررة للقاهرة. دفع يريما مهراً لأسرة الطفلة، مقداره مئة ألف دولار واستضاف ثلاثين من أفراد عائلتها المصرية في أبوجا لحضور الزفاف، وهو “ثمن يتجاوز بكثير “أسعار” الفتيات المصريات في سوق الزواج الخليجي.

لا تنتهي المأساة هنا. فبعد عودة ماريان للقاهرة مع طفلها، بعد الطلاق، قام يريما الخمسيني بعقد قرانه على طفلة أخرى لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وهي، بحسب وسائل الإعلام النيجرية، تدعى فتحية. مصرية أخرى، أنهت للتو دراستها في المدرسة الإعدادية العام الماضي. وبينما أشار بعض الصحف النيجيرية إلى أن تجارة الفتيات القاصرات في مصر، تحت ستار الزواج بأجانب، هو أمر رائج ويتم التغاضي عنه اجتماعياً برغم تجريمه قانوناً، إلا أنها حبذت أن “يريما” لم يلجأ إلى سماسرة لإتمام صفقة الزواج الأخير، بل ربما اعتمد على علاقته القاهرية المتشعبة، كما في السابق.

لا حاجة إلى فضائح يريما لتذكيرنا بواقع الاستغلال الجنسي، والتجارة بالقاصرات في مصر، وإن فتحت عيوننا على توسّع أسواق تلك العبودية المقنعة، والتي لطالما أقتصرت في الماضي على الدول العربية النفطية. لكن الجدير بالملاحظة هنا، أن زيجتي ماريان وفتحية لم تتما تحت حكم “الأخوان المسلمين”. بل كانت الأولى خلال العام الأخير لمبارك في الحكم، والثانية خلال الشهور الستة الأولى لحكم تحالف 30 يونيو.

لا ييدو سقوط الإخوان وحده، كفيلاً بمواجهة التجارة بالقاصرات في مصر. فخطاب السلطة الحالية، والمتحالفة علناً مع حزب النور السلفي الذي سعى إلى تقنين زواج القاصرات في “برلمان الثورة” المنحل، خطاب واضح، غير معني على الإطلاق بتحالف الجشع والفاقة والخطاب الديني المناهض للنساء والذي يسوّغ لبيع القاصرات بأبخس الأثمان وبرضى أولياء أمورهن. يذكّرنا الإعلام المصري في قصة “بوكو حرام”، بمصيرنا تحت حكم الإخوان البغيض. وتذكرنا قصة يريما، مرة أخري، أن “بوكو حرام” هنا في مصر.
\\ كاتب مصري \\

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى