مذكرات مصرية فى أيرلندا أدب رحلات
بقلم : سلوى الحمامصى
السفر إلى أيرلندا
عادة ما أبدأ كتابتى عن رحلاتى منذ لحظة ركوب الطائرة، فهى لحظة فارقة أعيشها عادة تحمل مشاعر الأمل والقلق والحنين والشجن، الأمل فى أن تكون رحلتى التى سأقدم عليها موفقة، القلق مما قدم تحمله الأيام والسنون من متاعب قد ألاقيها هناك، الحنين إلى وطنى مصر وأهلى وأحبائى فيه، الشجن الذى يملأنى وأنا أفارق أرض دفنت فيها أمى بعد أبى وأجدادى.
زرت قبر أمى قبيل سفرى بيومين، هذه المرة أتعجل السفر، المرة الأولى التى كنت فيها أتوق للسفر، ربما تصورت أنه سيخفف عنى رحيل أمى، ربما كان فيه بعض العزاء والسلوى، ربما نجحت فى أن أقنع نفسى بأنها لاتزال فى مصر وأننى أنا المسافرة.
أسطر كلماتى الأولى عن رحلتى هنا إلى أيرلندا بعد أن سبق أن كتبت مذكراتى كمغتربة فى سنغافورة وفى أوكرانيا بلاد الروس. أبدأ كتابى عن أيرلندا، تلك البلد التى لا أعرف عنها حتى الآن سوى القليل إذ لم يمض على مقدمى إليها إلا بضعة أسابيع لم تعدُ شهرا.
وعادة لا يسافر المسلمون مثلى فى العشر أيام الأخيرة من رمضان إلا لمكة لآداء مناسك عمرة رمضان، أما أنا فقدر لى أن أتوجه إلى أيرلندا كما دعت ظروف عمل الزوج بالسلك الدبلوماسى والتى تدعونا لكثرة التنقل كل بضعة سنوات من مكان لآخر فى أرض الله.
كانت رحلة الطائرة على خطوط شركة مصر للطيران المحببة إلى قلوبنا كمصريين حتى مطار باريس، فلم يكن هناك خط طيران مباشر من مصر لأيرلندا حينها.
كان المضيفون فى الطائرة فى غاية اللطف، مرت الرحلة بسلام بدون مطبات هوائية، كنت أفكر فى حياتنا فى أيرلندا التى لم نعرفها بعد، كيف ستكون؟ هل سيسعد أبنائى هناك؟ هل سأجد ما يحفزنى للكتابة عنها مثلما كتبت عن بلاد غيرها؟
فى مطار باريس بحثنا عن صالة الانتظار، كان علينا الانتظار نحو 4 ساعات وفى الطريق إليها وقفنا عند نقطة تفتيش وفحص جوازات السفر، حيث خضعنا وبعض مسافرى (الترانزيت) للتفتيش الذاتى وللحقائب الصغيرة أيضا، زجرتنى موظفة المطار الفرنسية وهى تقوم بتفتيشى عندما تحركت فى مكانى ، فقلت لها بعد أن انتهت، أنها أخطأت فيما فعلت وأننا فى مصر إعتدنا الترحيب بضيوفنا بابتسامة عكس ما فعلت هى، لم تنبس بشفة، نظرت إلى زميلها ولاحت منها ابتسامة هازئة، أخذت انطباعا عن الفرنسيين أنهم لا شك عنصريين.
تذكرت بعدها عندما جلست على مقعد فى صالة الإنتظار بمطار باريس، كيف استقبلتنى مضيفات المطار فى أوكرانيا منذ عدة سنوات بنفس تقطيبة الجبين وببرود شديد، لكنى سرعان ما نسيت بمجرد أن انتقلنا للبوابة المؤدية إلى أتوبيس الطائرة، فقد استقبلتنا مضيفة أيرلندية تبتسم فى وجوهنا بحرارة ودفء أنسانا برودة الجو هناك .
صعدنا للطائرة الصغيرة التابعة للخطوط الفرنسية والتى ستقلنا لمطار دبلن عاصمة أيرلندا، ولحسن الحظ كانت مضيفاتها أيرلنديات على درجة عالية من الود واللطف مما جعلنا نشعر بصدق المقولة التى قرأتها عن الشعب الأيرلندى ووصفته بأنه شعب ودود لطيف مع الآخرين .
الشعب الأيرلندى**
ابتسامة رائقة هى أجمل ما يقابلك به مواطن أيرلندى عندما يلتقى وجهك بوجهه، ربما يبادرك بتحية الصباح، ربما يهز رأسه لك أو يعرض عليك المساعدة إذا احتجت مساعدته، ويعتذر لك إن وقف فى طريقك بالمصادفة عندما كنت على عجل.
فى بلاد أخرى قد تُفهم الإبتسامة أحيانا بشكل خاطىء، فابتسامة من شخص ما قد تعنى سخرية وأخرى قد يكون ورائها مقصد غامض، أو ربما تكون إشارة إلى نوع من الخبل.
فى بلاد كسنغافورة مثلا حيث أمضيت أربع سنوات، قد لا يبتسم لك أى شخص على الإطلاق ولا حتى جارك، إلا إذا بادرته أنت أولا بتحية الصباح فهم شعب منغلق على نفسه إجتماعيا، وهم لا يرحبون بالأجانب لكنهم لا يحملون تجاههم روح العداء، أما فى أوكرانيا التى لم أطق بها سوى عام واحد، فلن يبتسمون لك وإن حيتهم بتحية ولا حتى إن بدأتهم بالابتسام، بل على العكس، سيردون على ابتسامتك بتقطيبة جبين، لأنهم ببساطة شعب عنصرى، لا يرحبون بالعرب ولا بالأفارقة ولا الآسيويين، ربما يتقبلون جيرانهم من الأوروبيين على مضض، وقد تتساءل هل هى عادة فى الشعوب الروسية؟ ربما يكون السبب فى ذلك أنها شعوب قضت سنوات من حياتها منغلقة على ذاتها، وربما فسره البعض بمشكلة البطالة وبأنهم قد ينظرون إلى الغرباء فى بلادهم على أنهم أقوام جاءوا لمشاركتهم فى لقمة العيش التى يجدونها بصعوبة.
لمعرفتى بذلك ومن خبرتى بالشعوب التى عشت فيها لسنوات أثناء سفرياتى وغربتى، أقدر جيدا الشعب الأيرلندى فهو عادة شعب طيب إلا ما قل، فنحن لا نعيش فى زمن الملائكة، فقد تجد جارا لا يرغب فى إلقاء التحية عليك، وتجد جيرانا كثيرين يحترمون بعضهم كثيرا ولكن لا يتفوهون بكلمة مع بعضهم البعض، فإذا مشيت فى أى حى بدبلن العاصمة مثلا لن تسمع صوتا سوى حفيف الأشجار و وقع أقدامك، أما الجيران فكأنهم نائمون صباحا ومساءا، كل فى حاله تماما، ومع ذلك هم يهبون لمساعدتك إذا احتجت إليهم أو طلبت المساعدة.
قالت لى (سارة) وهى أيرلندية فوق السبعين من العمر، أن الشعب الأيرلندى تغير كثيرا عن عهد طفولتها، فترى أنه فيما مضى، كانت أبواب البيوت مفتوحة، وقد يدخل الجيران لإلقاء التحايا على بعضهم بعد أن يطرقون الباب طرقة واحدة، كانت الأسر مترابطة أكثر من اليوم الذى أنغلق فيه كل على نفسه وعلى مشاغله وهمومه، ولا يمكن زيارة أحد إلا بعد موعد سابق، وقلت بصفة عامة روح الود لديهم ثم نظرت إلىً وهى تتعجب: أنت تقولين أن الأيرلنديين لطاف، ماذا إذن عن المصريين، إنهم شديدى اللطف والود، لقد سافرت هناك ورأيت كيف يرحبون بالأجانب بينهم.)
وقد يرى بعض الأيرلنديين، بالذات الذين قضوا سنوات طوال خارج وطنهم رأيا مخالفا، مثل ( روب) والد لصديق أبنى بالمدرسة الثانوى الذى قال لى يوما:( لا أعتقد أن الشعب الأيرلندى قد تغير كثيرا، لقد قضيت نحو عشرين عاما فى الأرجنتين قبل أن أعود العام الماضى لأستقر فى أيرلندا، وأرى كل شىء كما هو تقريبا، هناك نسبة تغيير ولكنها أقل بكثير منها فى شعوب أخرى، فلازلنا نحتفظ بتقاليد جميلة وروح طيبة.)
هم متفاءلون بطبعهم أو ربما يحاولون التظاهر بذلك، فإذا تحدثت إلى أحدهم ستجده باسما مستبشرا، متفاءلا،وكأنه يحلق فى سماء السعادة ، فى حين قد يكون مهموما أو صاحب مشكلة، ولكنه يحاول أن يتناساها ،على الأقل لا يبديها أمام الآخرين ويشعرك أن كل شىء فى هذه الحياة جميلا، هل هو نوع من الإيمان؟ هل هى عادة هذا الشعب؟
ذكرت لى شيفون ،إحدى السيدات من معارفى ذات مرة أن جدتها مريضة منذ مدة وقد أودعتها فى بيت مسنين طبى تابع للحكومة، كانت تزورها كل فترة وفى كل مرة تزورها كانت تخبرها بنكتة لطيفة لتضحكها بها، ذكرت لها ذات مرة : جدتى ماذا تقول البطة عندما تحيى البطة الأخرى؟ فابتسمت الجدة وهى متعبة لا تقو على الكلام ، فقالت الحفيدة لها: جدتى سأقول بدلا منك كواك ..كواك..هذه المرة.
قالت لى أنها تعلمت الكثير من جدتها وسألتها ذات يوم كيف تحملت عندما كانت زوجة شابة، مرض زوجها ثم وفاته بصبر وشجاعة، فأجابتها الجدة حينئذ: يا ابنتى، إنها الحياة، لابد أن نصبر، كل يوم استيقظ فيه لأجد ضياء شمس جديدة ، أرفع يدى للسماء لأشكر الرب على يوم جديد أعيشه فى هذه الحياة.
التجلد إذن صفة حميدة تضاف إلى رصيد صفاتهم، هم أيضا شعب شديد التدين، أشعر بذلك كثيرا عندما أتحدث إلي بعض الصديقات الأيرلنديات، وكثيرات منهن لهن قريبات راهبات أو أقارب من الرهبان، وكثيرا ما يتطوع البعض منهم للقيام بأعمال خيرية، خاصة بعد سن التقاعد، فتجد من يتطوع يوما لخدمة المرضى فى مستشفى ما، يقدم لهم (مباركة من الرب) على حد قولهم عبارة عن لقيمات مغمسة فى ماء قرأ عليه الإنجيل، وتجد آخرون يتطوعون فى مركز خدمات الكنيسة أو فى مدارس أطفال أيتام وغيرها من الأنشطة الخيرية، يفعلون ذلك اعتقادا منهن أن هذا الخير سيرد إليهم يوما عندما يكونون فى موقف الضعف أو المرض، فكثيرا ما كانت تذهب صديقتى بريدة كل خميس لتساعد فى المستشفى فى عمل تطوعى، وعندما عرضت عليها أن أذهب لأساعد أنا أيضا، تحرجت قليلا ثم شكرتنى وقالت أنه عمل لا يمكننى القيام به، فهمت بعدما شرحت لى أنه للمسيحيين الكاثوليك فقط.
الجميل أن صديقتى كانت تعتنى أيضا بزميلة لها فى العمل أحيلت للتقاعد ولم يكن لها سوى قريبة واحدة وصديقتى بريدة التى كانت تذهب إليها فى البيت لشهور لتعتنى بها ثم نقلتها للمستشفى الحكومى فى الوقت المناسب وظلت تتابع الاعتناء بها إلى أن ذكرت لى يوما أن تلك السيدة المسنة قد توفت وأنها حزينة عليها، حاولت أن أخفف عنها وقلت لها أنها استراحت، فابتسمت صديقتى قائلة : هل تتصورين أنها أوصت لى ببعض مالها قبيل وفاتها، لم أتوقع ذلك على الإطلاق!!
فى كل مستشفى تجد غرفة للصلاة، مجهزة لإقامة الصلاة فى أى وقت، فيها تمثال للمسيح والسيدة مريم، وربما يجتمع فيها قس مع أهل مريض تأخرت حالته ليصلوا لله أن يباركه و يشفيه أو ليقدم خطبة دينية ليصبر أهله بعد وفاته ويصلوا عليه.
عندما يأتى إليك عامل بريد بظرف ما ويسلمه لك تجده وهو ينصرف يبتسم عادة لك قائلا: أتمنى لك حياة سعيدة.
أو سائق تاكسى يوصلك لمكان فيبتسم ويقول: أليس يوما جميلا . حتى وإن كانت الأمطار تهطل بالخارج كعادتها، فلن يملكك حينها إلا الإبتسام له قبل الانصراف وإذا لم يكن معك يورو أو أثنين بقية الحساب، فسيقول لك ببساطة: لا مشكلة ، وينصرف إلى طريقه.
أذكر أن زوجى قص على طرفة حدثت له عندما حضر إلى هنا وحده فى بداية الأمر، كان يمسك بخريطة لمنطقة وسط البلد ويحاول أن يتعرف على أحيائها وأراد حينها أن يصل لمكان معين فسأل أحد المارة الأيرلنديين، فابتسم الرجل له وسأله إن كان حديث العهد بالبلد، ومن أى بلد هو، ورحب به ثم قال: أنت الآن خارج هذه الخريطة، ثم أشار إلى الطريق التى يجب عليه أن يسلكه.
انصرف الرجل وتوجه زوجى إلى مقصده، فإذا به يلتقى بنفس الرجل الأيرلندى مرة أخرى بعد لحظات، فابتسم الرجل له قائلا: أنت الآن داخل الخريطة.
نبذة عن أيرلندا:
على الرغم من تجاورهما وارتباط تاريخ بلديهما لمئات السنين حيث كانت أيرلندا تحت السيطرة البريطانية إلا أنهما ظلتا مكانين مختلفين تماما ولم تذب الثقافتان فى بعضهما ،فاحتفظ كل منهما بعاداته وتقاليده وفنونه الخاصة وأيضا معتقداته السياسية والدينية المخالفة.
رأى الرومان أيرلندا على أنها مكان شديد البرودةغير صالح للسكن فتركوها واتجهوا إلى أرض أخرى تعرف الآن بفرنسا فى حين وجدهاالفايكنج مكان دافىء بالنسبة لبلادهم يستحق الإبحار مئات الأميال للوصول إليه أولا للإستكشاف وثانيا للإستقرار فيه.الفايكنج أوربيون ينحدرون من الشمال، جابوا أنحاء أوروبا فاستقر بعضهم فى مكان فرنسا حاليا وأطلقوا على أنفسهم النورمان،وبعضهم إستقر فى ما عرف بعدها بإنجلترا وسرعان ما نشبت الحرب بين بعضهم البعض لسنوات .
اعتقد الحكام البريطانيون أن باستطاعتهم السيطرة على أيرلندا باعتبارها جزء من انجلتراالعظمى .
المجاعة التاريخية الكبرى التى حدثت فى أيرلندا أظهرت بريطانيا على حقيقتها وأبرزت قلة الاهتمام والبرود تجاه مئات الايرلنديين الذين ماتوا جوعا.
وقيل أنه لو كانت هذه المجاعة قد حدثت فى مدينة بريطانية وليست أيرلندية لقابلتها بريطانيا بأهتمام أكبر بكثير.
يرى الأيرلنديون أن كل من أراد الكسب من وراء إستعمار أيرلندا لم يجن إلا الفشل والخيبة، فكان الأيرلنديون دائما يهبون لمقاومة المستعمر بمظاهراتهم واعتراضاتهم وفقد كثيرون أرواحهم من أجل المطالبة بالاستقلال الذى لم يكن الحصول عليه من اليسير أبدا.
لأيرلندا أيضا مكانة أدبية كبيرة فى الثقافة الغربية، لم تستطع لغة المستعمر أن تقضى على لغتها الأيرلندية وثقافاتها وإن كانت أضعفت إنتشارها فاللغة الرسمية حتى الآن هى الإنجليزية إلا أن اللغة الأيرلندية لازالت تدرس إجباريا فى المدارس وتستخدمها بعض الإذاعات فى تقديم برامجهاونشرات أخبارها اليومية، لغة حاول المستعمر طمسها ولم يفلح. يقال أيضا عن أيرلندا أنهاأرض القديسيين والباحثين يقصدون بذلك قديسين مثل سانت باتريك الذى أدخل المسيحية الكاثوليكية إلى أيرلندا لأول مرة وكذلك كثير من الحائزين على جائزة نوبل فى العلوم المختلفة والآداب مثل (شيموس هنى ) الشاعرالذى توفى هذا العام2013 بعد أن أثرى الحياة الأدبية بمؤلفاته الشهيرةالتى ركزت غالبا على تقاليد المجتمع الأيرلندى.
قدمت أيرلندا العديد من الوجوه المحبة من الأبطال والضحايا مثل ضحايا المجاعة الكبرى وبعض الموهوبين الكبار بها، كما سنعرض لهم خلال هذا الكتاب.
هذه الجزيرة الصغيرة التى لا يزيد تعداد سكانها عن 5ونصف مليون نسمة أصبحت مركزا هاما للصناعات الإلكترونية إلى جانب كونها غنية بثرواتها الطبيعية كالفحم والمعادن والطبيعة الريفية الساحرة المتمثلة فى المراعى الخضراء الممتدة عبر التلال المرتفعة والمنخفضة وثروتها الحيوانية المتمثلة فى الأبقار والأغنام التى تزخر بها تلك المراعى فتزينها كالزهور فى الحقول كما تبدو عليه من بعد.
***
الرئيس مايكل هيجنز هو الرئيس الحالى لأيرلندا حيث تم انتخابه عام 2011 مباشرة من الشعب الأيرلندى، أما نظام الحكم فهو رئاسى برلمانى، فالرئيس هيجنز إذن هو رأس الدولة ، هو رمز للدولة يحضر جميع الاحتفالات الرسمية التى تعقد بأيرلندا ، أما رئيس الوزراء إندا كينى فهو الحاكم الفعلى للدولة، يهتم بالأمور السياسية والأقتصادية وكل الأمور الدخلية والعلاقات الخارجية يعاونه فى ذلك نائبه إيمون جليمور، وهو أيضا وزير الخارجية والتجارة.
المثير للإعجاب حقا أن أيرلندا أستطاعت أن تتعافى إقتصاديا إلى درجة كبيرة بعد الأزمة الاقتصادية التى تعرضت لها ضمن الأزمة العالمية، فقد أنهت هذا العام آخر مرحلة من المساعدات الدولية وفقا لبرنامج إقتصادى تابع للاتحاد الأوروبى بدأ عام 2009، تمثل فى سياسة تقشف اتبعتها الحكومة واستجاب الشعب لها، تضمنت زيادة أسعار وتخفيض رواتب، إلا أنها تمكنت من الوقوف بثبات على أرض الأقتصاد الدولى و حقق الاقتصاد الأيرلندى فى عام 2011 نسبة نمو قدرها 1.4% مما فاق التوقعات ، و ستكون النتائج أفضل إذا سارت وتيرة النمو بنفس النجاح.
لا يعرف أحد ما الذى سيأتى به المستقبل لكن الأيرلنديون يحلمون بالكثير مما يودون تحقيقه لبلادهم.
عازف الفلوت
لا أعرف لماذا أخترته لأحدثك عنه بالذات ولكن هذا ما شعرت به عندما تأملته وهو يرفع الفلوت إلى فمه ويعزف بها أجمل الألحان، كنت قد دخلت شارع جرافتون منذ دقائق وأنا أتفقد المحال التجارية المتنوعة لم تكن أول مرة أزور فيها شارع جرافتون فى العاصمة الأيرلندية دبلن، فقد زرته عدة مرات من قبل،وهو شارع تجارى للمشاه من أهم شوارع وسط البلد وأطولها، كذلك شارع هنرى هو للمشاة فقط تتركز فيه أشهر متاجر أيرلندا التى تبيع كل شىء تقريبا،من ثياب، لمفروشات، لكتب، لأيس كريم وشيكولاته إلى جانب المقاهى الصغيرة والكبيرة ذات الطابق الواحد أو الطابقين.
لم ألتفت للموسيقى فى بادىء الأمر كيف لا أدرى ، ربما لأنى اعتدت سماع الموسيقى فى ذلك الشارع بدبلن، إلا أنى شعرت بنوع من التفاؤل يسرى فى بدنى، تبينت بعدها أن مبعثه هو ذلك العازف الستينى الذى يجلس على كرسى خشبى بسيط وقد رفع الفلوت إلى فمه و أطلق عينيه بعيدا وهو ينفخ فى الفلوت بشكل منتظم فينطلق لحن من أجمل الألحان.
لمت نفسى على أنى لم أقف لسماعه باهتمام لأنى لم أنتبه له، فرجعت إلى حيث يجلس ووقفت على الرصيف المقابل أنصت وأتأمله، نظرت إلى البلوفر الكمونى اللون والبنطال البيج الخشن وحذائه البنى المتهالك الذى يرتديه ، إلى قبعته الصغيرة، إلى ذقنه الذهبية الطويلة وقد تخللتها شعيرات الشيب ،وشعره الأشعث الذى تهدىء القبعة من انطلاقه،إلى عينيه السارحتين بعيدا بعيدا مع النغمات الجميلة التى تحملنى للسعادة تارة، و تارة أخرى تهبط بى لبعض الشجن الذى شعرت به جيدا فى نظرات عازف الفلوت السارح.
اقتربت منه ووضعت بعض النقود المعدنية فى قبعة سوداء كان يضعها جواره على الأرض.
تعجبت كيف لا يمنحه المارة أكثر من نظرة وهم يسيرون إلى غاياتهم؟ فى حين يلتفون حول رسام فقير انحنى على الأرض على مسافة قريبة منه ليرسم لوحات بشكل تقنى جديد مستخدما سائل الكيروسين و آلة أخرى يخرج منها لهب، ويتابعه بعض المارة بلهفة حتى ينتهى من لوحته فيصفقون له بإعجاب.
عدت بنظرى مرة أخرى لعازف الفلوت وتساءلت كيف لا يكون لمثل تلك الموهبة الرائعة مكان فى مسارح تزخر بها العاصمة؟
سباق الخيل
دفعوه دفعا،زجروه،وضعوا حاجبا على عينيه ثم واصلوا الدفع به،تحركت أقدامه للأمام نزعوا الحاجب من فوق عينيه فعاد أدراجه، لكنه أجبر على الدخول من جديد حلبة السباق، وبركلة قدم انطلق يجرى رغما عنه
. تلكم الحياة،دفعنا إليها دون اختيار، فإذا بأناس فى حلبة السباق و أناس يشاهدونها.
الآن دورك أنت، هل ستدخل السباق؟ أم ستظل فى مقاعد المتفرجين؟ إذا دخلت السباق فأعلم أن لكل مجتهد نصيب، إذا فزت فأعمل كل ما فى وسعك لتظل ناجحا وإلا فأترك المقعد لمن خلفك، وإذا فشلت،فيكفيك شرفا أنك واصلت لنهاية السباق.
أما إذا أخترت أن تظل فى مقاعد المتفرجين، فلا تكن سلبيا، إما أن تصفق أو تعبر عن استيائك، لا تكن كالماء بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
ما سبق كان مشهدا رأيته فى إحدى سباقات الخيل الشهيرة بأيرلندا، تأملت كثيرا فيه و فهمت أنه لابد لذلك المشهد الذى تأثرت به من معنى، لذا كتبت خواطرى عنه، فقد لفت نظرى بشدة هذا الحصان الذى يرفض الحركة،تساءلت عن السر وراء ذلك، ترى هل أغضبه مدربه، ربما ضربه،أو نهره؟
أعرف أن الحصان حيوان ذكى و حساس إلى درجة كبيرة فهو يشعر بلمسة يديك إذا مسحت رأسه، بل أنه يرنو إليك بعينيه إذا ما لمح نظرة حنان فى عينيك. علاقة الإنسان بالحصان خاصة جدا، فهو يشعر بفرح صاحبه أو حزنه من نبرة الصوت الذى يخاطبه به، أو من همسة ود يلقى بها فى أذنه.
أذكر أنى فى يوم مشمس وهو نادر فى أيرلندا، كنت أتمشى قرب إحدى المراعى الأيرلندية فى قلعة باور سكورت الأثرية حين رأيت حصانا جميلا سارحا فى الأفق البعيد، أقتربت من حاجز الشجيرات الخضراء التى تفصلنى عنه، تأملته للحظات، ثم فكرت أن أناديه ، وتساءلت بأى لغة أناديه، هل سيفهمنى إذا ناديته بالعربية مثلا، اخترت أن أناديه بالإنجليزية وتصورت أنها اللغة الأكثر شيوعا هنا، فربما تكون مألوفة بالنسبة له، إذ يسمعها من الأشخاص الذين يمرون به.
حييته تحية الصباح، وسألته كيف حاله اليوم؟ وأخذت ألوح له بيدى وأبتسم، فالتفت إلىً وتأملنى قليلا ثم خطى نحوى بضعة خطوات، تبادلنا النظرات الدافئة، تأملت لونه البنى الجميل،وشعره الأسود وذيله الطويل وعينيه السوداوتين ، لمست شعر رأسه، للآسف لم يكن معى حلوى أو أى طعام أعطيه له،اعتذرت له عن ذلك، وقف معى لحظات ثم تركنى وانصرف إلى مرعاه حيث تقف على مقربة منه وليفته البيضاء تأكل من حشائش الأرض.
***
كان لابد أن أقرأ وأبحث عن الخيل الأيرلندية المنتشرة عبر المراعى الخضراء خاصة فى الريف، فعلمت أن العلاقة بين أيرلندا والخيول علاقة تاريخية،فالمراعى الأيرلندية الخضراء الخصبة الشاسعة أتاحت الفرصة لأصحاب المراعى لاستيراد الخيول وتربيتها ورعاياتها، لتصبح أيرلندا اليوم من أكثر الدول الأوروبية تربية للخيول، وصارت سمعة الخيول الأيرلندية عظيمة من حيث الصحة الجيدة والقوة التى تمكنها من الإشتراك فى سباقات الخيل المحلية التى تقام فى أنحاء أيرلندا على مدى العام، والسباقات الدولية أيضا مثل سباق دبلن الدولى والسباق الأوليمبى.
ويقال أن الأساطير الأيرلندية القديمة كثيرا ما ذكرت الخيل وربطت بينها وبين المحارب الأيرلندى القديم،ذلك الفارس القوى الذى يمتطى حصانه ويطير به أو يشارك فى المعارك ويطارد به الأعداء، كما تحدثت أيضا عن حصان البحر الذى يمثل كائنا حقيقيا يمكنك أن تراه فى متحف الكائنات البحرية بدبلن ولكنه حصان صغير ليس كبيرا كما تصوره الأساطير القديمة.
كانت الخيول منتشرة فى أنحاء أيرلندا كإنتشار السيارة فى عصرنا الحالى، كانت تجر العربات وتنقل الناس من مكان لآخر، بل أنها كانت رمزا للرفاهية الإجتماعية، فربما امتلك شخص عربة خاصة يجرها حصان واحد أو ربماأكثر فكلما زاد عدد الخيول التى تجر العربة دلل ذلك على ثراء هذا الشخص ومركزه الإجتماعى.
الطريف أنه فى القرن السابع عشر كانت الخيول الأيرلندية تستخدم أحيانا كمهر للعروس، أو يدفع ببعض منها كتعويض عن الخسائر أو الأضرار الخطيرة، فيدفع بها الجانى للضحية.
كثيرا ما ألهبت الخيول عواطف الأدباء والشعراء فوصف الحصان الجيد فى الشعر الأيرلندى، على أنه ذلك الذى له آذان الثعلب ، وسيقان الغزلان ، وصدر الأسد، وظهر الغنم.
وهناك مثل أيرلندى قديم يقول: بع بقرة،إشترى غنم، لكن لا تفرط أبدا فى حصان.
فى الوقت الحالى تقيم أيرلندا عددا من سباقات الخيول مثل *مهرجان الكريسماس لسباقات الخيل والذى يعقد من 26-29من ديسمبر من كل عام، فيمكنك إذا سنحت لك الفرصة بزيارة أيرلندا أن تحظى بحضور إحدى فعاليات هذا السباق خاصة وأن التذاكر ليست باهظة.
سباقات الخيل إذن من الرياضات الشعبية لدى الأيرلنديين، تراهم يتجهون إلى مكان عقد السباق فى ملابسهم الرسمية، فترى المعاطف القيمة ذات الفراء، والقبعات الأنيقة ذات التصميمات الراقية، وكأنهم يتجهون إلى حفل ملكى، كذلك يلجأ البعض لعمل مراهنات على الخيل، فيشترى عددا كبيرا من تذاكر المراهنة فهى فرصة لكسب المال إذا ما واته الحظ وفاز الحصان الذى راهن عليه.
للشمس أعياد
الشمس عزيزة جدا فى أيرلندا شتاءا، فهى تتدلل على السكان كثيرا.أياما كثيرة لا تدرك النهار إلا من ضوء بسيط للشمس، و تكون السحب المنخفضة والغيوم هى السائدة، وأحيانا تطل علينا الشمس بضوئها الذهبى لنصف ساعة فى نهار الشتاء أو لبضع ساعات وهنا يصبح هذا اليوم لدى الأيرلنديين عيدا حقيقا.
أذكر يوم كنت عائدة إلى منزلى ووجدت إحدى سكان الحى أمام سيارتها فحيتها فتبسمت لى وسألتنى إن كنت حديثة العهد بالسكن فى هذا الحى ، فأجبتها بالإيجاب،وعرفتها بنفسى.
ابتسمت ورحبت بى قائلة : إنه يوم جميل مشمس، فقلت نعم هو كذلك – أنا التى اعتدت الشمس دائما فى بلادنا- فقالت:نحن نستحق ذلك اليوم ،أليس كذلك؟ فهززت رأسى وودعتها.
تعجبت من فكرة الشعور باستحقاق النعمة، فكرة لم تخطر لى من قبل، كنت افكر فى شكر الله على نعمه الكثيرة ولم يخطر ببالى كونى أستحق النعمة أم لا.
صادفت يوما مشمسا فخرجت إلى حديقة مع صديقة مصرية، فوجدت كثير من الأمهات خرجن إلى الشوارع يدفعن أمامهن عربات الرضع للاستمتاع ببعض الشمس فى شتاء أيرلندا البارد.
فى حديقة سانت ستيفن جرين ،إفترش كثير من الشباب وطلاب الجامعات أرض الحديقة بعد انتهاء محاضراتهم، منهم من يثرثر ومنهم من يستلقى على ظهره رافعا وجهه للسماء مستمتعا بضوء الشمس. الجميل أن هناك بعض اللوحات الزيتية تصور هذا المشهد للطلاب على أرض الحديقة فهو مشهد يوحى بالاستمتاع بشمس يوم فى حديقة من أشهر حدائق العاصمة.
يوم مشمس فى أيرلندا تماما كيوم شم النسيم فى مصر عندما تستعد بعض الأسر وتنطلق إلى الحدائق و الأماكن المفتوحة معهم أطباق الأسماك و البيض الملون .
أما الآن فقد دخلنا فى وقت الربيع حيث يطول النهار ويتأخر غروب الشمس للثامنة مساءا وعندما يدخل الصيف سيتأخر غروب الشمس أكثر ليصل إلى العاشرة مساءا فى يوليو مثلا الذى سيوافق شهر رمضان فلنا الله.
زيارة لبيت أيرلندى
————-
أوسعنا جون ومارى حديثا عن (دارا)، بشوش الوجه، كثير الصخب، محب للسهر، مشغولون لأن دارا عندنا، أو لأنا ذاهبون إلى دارا، ينام كثيرا ، ويرضع جيدا، قلت لمارى: الله يحفظه لكم ، لابد وأن مجىء أول حفيد لكما له وقع خاص جدا عليكما أنت وجون.
الآن عرفت من هو دارا، ولكنى لم أذكر لك من هما جون ومارى!
جون ومارى هم أصحاب البيت الذى نستأجره فى أيرلندا فى الستين من العمر أو أكثر قليلا ، ثنائى لطيف وطيب وودود للغاية، أما جون فهو ثرثار للغاية، يأتى كل فترة للاطمئنان علينا أو على منزله بطريق غير مباشر، وما أن تفتح له بابك و يدخل حتى يبدأ فى السؤال عن أحوالك ثم يتحدث عن دارا الحفيد الجديد وأخباره، وغالبا ما يعرج الحديث إلى أمور العناية بالصحة والغذاء السليم، فجون ومارى شخصيتان رياضيتان، يذهبان إلى النوادى الصحية ويمارسان الجرى والسباحة على الأقل ثلاث مرات أسبوعيا، وربما جاز لنا القول إن حب الرياضة والاهتمام بالصحة هو سمة فى الشعب الأيرلندى لدرجة أنه يمكنك أن ترى بنفسك طوابير أمام النادى الصحى قبل أن يفتح أبوابه فى السادسة والنصف صباحا، حتى يستطيع الرياضيون منهم أن يمارسوا قدرا من الرياضة قبل الذهاب لأعمالهم لا يمنعهم من ذلك الهطول شبه اليومى للمطر، ولا حرارة الجو المنخفضة والتى قد تصل أحيانا إلى 2- فى الشتاء ولا تزيد عن 18 فى الصيف.
دعانا جون ومارى للغذاء فى بيتهما عندما أبدينا رغبتنا أنا و زوجى فى زيارة الحفيد الجديد و تقديم التهانى لوالديه، لويزا وزوجها.
بدا بيت الجد والجدة جميلا من الخارج بسقفة القرميدى الأحمر، ونوافذه الزجاجية ذات الإطارات البيضاء وتلك الشجيرات الخضراء الرقيقة التى تميل على جانبى مدخل البيت.
استقبلنا بعض أفراد الأسرة ،جون فى المقدمة تليه مارى وابنهما جونى وخطيبته آن، علت صيحات الترحيب وهم يدعوننا إلى الدخول.
الصالة صغيرة إلى حد ما غير أن النوافذ الكبيرة أعطت إحساسا بالاتساع، الحوائط بيضاء اللون، تستند كنبة كبيرة إلى الحائط المواجه للمدخل وكرسيان بذراعين على اليمين واليسار، هناك بعض الأرفف الخشبية البنية اللون مثبتة فى الحائط فوق الكنبة الكبيرة وقد امتلأت بالكتب وبعض التحف الصغيرة على الأطراف. بقية الحوائط مزينة ببراويز صور عائلية، توجد مكتبة أخرى كبيرة تفصل بين الصالة وجزء آخر متصل بها غالبا يؤدى إلى غرفة السفرة.
جلسنا وجلس الإبن وخطيبته، فى حين ظل جون ومارى واقفين وهما يبتسمان قالت مارى : أنتما لا تشربان الكحول؟ أليس كذلك؟ سأحضر عصيرا إذن.
سألنا عن ضيف الشرف، دارا، قال جون إنه سيحضر مع والديه فور الانتهاء من تناول رضعة الظهيرة، ثم توجه على الفور لأحد أرفف المكتبة وأحضر مجموعة من صور شخصية قدمها لى،وهو باسم: هذه صور فرح لويزا ابنتى العام الماضى.
كانت مارى قد أحضرت العصير فوضعته على المائدة ووقفت جنبا إلى جنب جون وهما منحيان ليقدما لنا شرحا وافيا عن كل صورة.
أمسكت بصورة العروس لويزا، وهى فى قاعة الاحتفال بإحدى الكنائس، قالت مارى : هذه ابنتى فى دير( آبى) وهو دير جميل وصغير قرب البحر ، أطلقت تنهيدة قائلة : آه، لقد كان يوما رائعا، فالشمس كانت ساطعة .
ضحكنا لعلملنا أن يوما مشمسا فى أيرلندا بمثابة يوم عيد للجميع.
تناولنا صورة أخرى للعروس وهى تتأبط ذراع والدها جون، وقد بدى فى الصورة متجهما بعض االشىء، نظرنا إلى جون فإذا به يقول: كانت لحظة مؤثرة عندما قدمت ابنتى لعريسها.
صورة أخرى لفستان العروس من الخلف ليبدو ذيله الطويل، علق جون بإعجاب: هل رأيتم فستانها، لقد أخذت وقتا طويلا فى انتقائه، أليس رائعا؟
ثم تناولنا صورة أخرى للعروسين فى قبلة حالمة، وصورة أخرى لأفراد العائلة تحيط بالعروسين، وبدأ جون ومارى فى تقديم أفراد العائلة فى الصورة فردا فردا، وتوالت الصور فإذا بصورة لمارى تغنى وهى تمسك بميكرفون فى قاعة الاحتفال بالكنيسة، لم أستطع أن أمنع نفسى من التعليق عليها، فقلت:اعتقد أنك متماسكة جدا يا مارى ، جميل أن تغنى فى فرح لويزا دون أن تغلبك الدموع.
ابتسمت مارى قائلة: لم يكن ليحدث هذا إذا ما تمرنت بالقدر الكافى قبل الحفل على الغناء ، ثم أردفت: الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق.
————-
جلسنا نحتسى العصير و قد تزودنا بجرعة وافية من ذكريات عائلية بثتها لنا صور حفل زفاف الإبنة، ووجدتنى أتأمل صورا أخرى على الحائط، ففى هذه صورة لمارى و جون فى زفافهما، وتلك للزوجين مع أطفالهما فى مطعم على الغذاء وهم صغار، وأخرى فى حفل تخرج لويزا وأخرى لحفل تخرج جونى ، ووجدت كيف أن مارى وجون تمكنا من الاحتفاظ بنفس قوامهما الرشيق عند الزواج، الفرق البسيط كان فى بعض التجاعيد البادية على وجهيهما، و شعر جون وذقنه اللذان تحولا للون الأبيض و إن كان شعره قد خف قليلا من الأمام ليبدى بعض الصلع.
لاحت سيارة لويزا وزوجها من وراء زجاج النافذة، أطلق جميعهم صيحة التحمس واتجهوا نحو الباب استعدادا لاستقبال ضيف الشرف دارا العزيز.
دخلت لويزا تحمل دارا ومن ورائها زوجها باسما، تصافحنا وتولى جون تعريفنا بهم، وجلسنا ، كانت جميع الأنظار تتجه نحو الرضيع دارا، انظروا إلى حذائه، بل إلى شعره المنكوش، بل إلى عينيه المندهشتين لوجود زائرين جددين.
تجاذبنا أطراف الحديث حتى انتهت مارى من تجهيز المائدة بمساعدة ابنها جونى و دعتنا للغذاء، كانت قد أعدت لنا غداءا إيرلنديا، عبارة عن طاجن الدجاج والبروكلى بالكريمة وفتات الخبز، وبعض السلطات مثل سلطة البطاطس وسلطة خضراء ولم تنس مارى أن تضع علبة الزبد وبعض التوست الأسمر.
دعتنا إلى الحديقة الخلفية للاستمتاع بالغذاء تحت ضوء الشمس الخفيفة وأيضا كى يتسع المكان للجميع، لاحظت صورة عائلية أبيض وأسود لسيدة ورجل، سألت مارى عنهما فقالت إنهما والدا زوجها، وصورة أخرى بجانبها ضمت نحو أربعين شخصا بينهم مارى وجون، أشرت لمارى إليها فتبسمت قائلة إنها صورة عائلية لأسرتى فقد تجمعنا كعادتنا من حين لآخر عند ابن عمنا باعتباره أكبر أفراد العائلة سنا والتقطنا هذه الصورة خارج المنزل .
أعجبتنى فكرة التواصل والترابط العائلى وأخذتنى التلال الخضراء الممتدة فى خلفية الصورة، لازالت الأماكن الريفية تحتفظ بطبيعتها الآخاذة مهما اختلفت مسميات البلدان ومهما تباينت خرائطها
.
تبادلت الحديث مع لويزا عن دارا وعاداته الأخيرة فى اللعب والنوم والاستيقاظ، وشكرتنا على هديتنا لدارا و أكثرت من الشكر قائلة إنها لعبة مناسبة للمرحلة القادمة من سنه وإنها على ثقة من أنها ستنال إعجابه.
بعد الانتهاء من الغذاء نهضت لمعاونة مارى وإعداد الشاى، ولم يكن غريبا أن أجد جون زوجها فى المطبخ يدندن هامسا وهو يغسل الأطباق.
كانت مارى تخرج فناجين الشاى من دولاب السفرة فأشارت إلى طقم من الكاسات بدى عليه القدم ، قالت لى :أتعلمين أن هذه الكاسات ورثها جون عن والدته ،قلت بإعجاب : مثل هذه التذكارات كلما مر الزمان ازدادت قيمة وغلوا فى النفس
.
احتسينا الشاى مع كيك الروبارب الأيرلندى وسألت مارى عن آخر أدوارها المسرحية، لا أعلم إن كنت قد أخبرتك من قبل أنها فنانة مسرحية، فأجابتنى بعينين لامعتين وحماسة فى نبرة صوتها ثم وضعت يدها على ذراعى قائلة: لقد ذكرتنى الآن، كنت سأنسى أن أخبرك عنها، ستكون المسرحية فى شهر أكتوبر القادم، المخرج هذه المرة شاب متحمس جدا و ستعجبك المسرحية.
سألتها عن القصة وتفاصيل الدور فأجابت بأنها ستقوم بدور البطولة أمام ممثل آخر، وقد اختار المخرج بطلين من مسرحيتين لانطوان تشيكوف ،( أنكل فانيا )و (الأخوات الثلاثة)، وتصور كيف يمكن أن تسير الأحداث إذا ما إلتقيا فى حوار مسرحى فى هذا العمل.
أبديت إعجابى بالفكرة وقلت:لابد أنه سيكون عملا رائعا، أتطلع لمشاهدتك فيه، لكنى يجب أن أرجع لهاتين المسرحيتين لأتذكر كيف كانت الشخوص وأى منهم سيختار مخرجك.
مر الوقت سريعا وحان وقت الانصراف، شكرنا الزوجين على ضيافتهما وفى طريقنا إلى الباب حانت منى التفاتة إلى كم الصور العائلية على الجدران فى كل مكان، قلت: ما أجمل أن يعيش الإنسان بين هذه الذكريات الجميلة. فقالت لويز الأبنة: هل رأيت الصور التى بغرفتى؟ تعالى معى إذن.
صعدنا بضعة درجات السلم المؤدى للدور العلوى، دخلت لويز غرفتها الصغيرة وقالت بتأثر هذا فراشى و هذا مكتبى ، هذه غرفتى منذ كنت صغيرة، ثم أشارت إلى لوحة خشبية كبيرة معلقة على أحد الجدران : هذه صور طفولتى، صورى مع صديقاتى.
لحقت بالجميع وخرجنا أنا وزوجى وقد إزددنا إشتياقا إلى أقاربنا وأحبائنا فى مصر وخارجها.
.
قلت لزوجى: كم هو زوج طيب جون، يغسل الصحون لزوجته.
ابتسم زوجى قائلا: هل لاحظت أنه لا يثرثر كعادته فى حضور زوجته؟
نهاية الحلقة الأولى